قالت أمها للمرة الألف: «اسمعى الكلام يا رانيا وتعالى معانا بدل ما تقعدى لوحدك فى الشاليه».
هزت رانيا رأسها فى عناد. كانت أمها تذهب وتجىء فى المسكن، وتعد حقيبة السفر بانهماك الأمهات. مشوار طارئ استوجب سفر والديها لليلة واحدة، وأصرت رانيا أن تبقى وحدها فى شاليه المصيف، وتعللت بمشقة الذهاب والإياب. الحقيقة أنه كانت تستهويها فكرة البقاء وحدها، كانت الصغيرة المدللة فى أسرة تعاملها كدُمية. وهى تتمنى أن تطوى السنين طيّا وتصبح فتاة كبيرة ناضجة، تذهب حيث تشاء وتعود متى تشاء.
جلست رانيا على المقعد وقد أحست بالنعاس يغزوها. لم تنم بالأمس إلا لماما. تفكر فيما ستفعله بالغد. وسمعت صوت إغلاق الباب فهرعت إلى الشرفة تراقب السيارة وهى تبتعد. الآن يمكنها أن ترفع صوت التليفزيون وتكركب البيت دون أن توبخها أمها.
أحست رانيا بنشاط مفاجئ، وقررت أن تتنزه فى طرقات القرية السياحية الوادعة المزدانة بالزهور. وبينما هى تسير فى ممر يمتد ما بين الأشجار الوارفة، شاهدت شبحين متعانقين فى جانب فابتسمت فى سرور. لكنها حين دققت النظر تبين لها أن الرجل يضغط على عنق الفتاة الطويل. توقفت فى ذعر وأفلتت منها شهقة، فالتفت الرجل صوبها، وتلاقت العينان. لم تفكر لحظة وإنما استدارت فى عنف وشرعت تركض حتى آخر الممر، أذناها المرهفتان لم تسمعا سوى صوت أنفاسها اللاهثة ووطء قدميها الخفيفتين لأوراق الأشجار.
■ ■ ■
لم تتخيل رانيا وهى تغادر الشاليه أنها ستعود إليه بعد دقائق راكضة. لم تستوعب أن عالمها البرىء يمكن أن يتسع لجريمة قتل تكون الشاهدة الوحيدة عليها. صعدت الدرج وهى تلهث ثم أغلقت الباب وراءها. وبسرعة بحثت عن هاتفها المحمول فلم تجده. لا بد أنه سقط أثناء ركضها.
نظرت حولها فى فزع. لا تستطيع أن تعود للبحث عنه، فكيف تتصل بوالديها. البيت هش ويغرى بالاقتحام. وهذا القاتل المجهول لا شك تتبعها وعرف أين تسكن. تباً لماذا كل هذا الزجاج؟ منافذ البيت سهلة الاقتحام وقتلها فى يديه الضخمتين أسهل من قتل العصفور. راحت تسترجع المشهد. فى البدء ظنتهما عاشقين يتناجيان، وحينما اقتربت شاهدت يديه الكبيرتين تلتفان حول عنقها. الضحية لم تلتفت إليها لكن عينيه الحادتين التقتا بعينيها. ولا بد أن ملامحها محفورة فى ذهنه، وبعد قليل سوف يتسلل إليها.
رباه ماذا تفعل فى هذا المأزق المخيف؟ القرية شبه خالية من الناس؟ وحتى الوصول إلى أمن القرية ينطوى على مجازفة شديدة. فهناك الدرج الخالى من الممكن أن يكون مختبئاً وراءه. وهناك دغل الأشجار الذى لا بد أن تمر به. ليتها ركضت إلى أمن القرية بدلاً من بيتها. لكن ذهنها كان مشلولاً تماماً.
وبينما هى تفكر فى هذا المأزق حدث أغرب شىء فى العالم، فجأة سمعت أمها تقول فى صبر نافذ: «اسمعى كلامى يا رانيا وتعالى معانا بدل ما تقعدى لوحدك».
نظرت كالذاهلة فوجدت نفسها غافية على المقعد. تلفتت حولها فى ارتباك فوجدت هاتفها المحمول فى يدها. رباه! هل كان ما رأته حلماً عابراً أم رؤيا مستقبلية تكشف لها ما هو آتٍ! فى كل الأحوال لن تفكر دقيقة واحدة. كانت أمها قد فتحت الباب بالفعل حينما صرخت:
«استنى يا ماما أنا جايه معاكى».