عِنْدَمَا عزل عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ خَالِد بْن الْوَلِيدِ، عاد خَالِد مرة أخرى إِلَى المَدِينَة المُنَوَّرَة عاصمة الخِلَافَة ومقرّ الحكم، ومن المدهش أن نعرف من كُتُب التَّارِيخ أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ لم يتخذ قصرًا ولا حَتَّى بيتًا للخلافة والحكم، وهَذَا يَرجِعُنا إِلَى قصة اغْتِيَال عُثْمَان بْن عَفَّانَ واقتحام بيته أو داره، لتكتشف أنه لم يكُن هُنَاك حُرَّاس ولا بوابات عالية، ومن ثم يجب الاعتبار جيدًا لفكرة أن قصر عُمَر بْن الْخَطَّابِ ومقرّ إدارة الحكم كَانَ المَسْجِد، أو بالأحرى جزءًا من المَسْجِد النَبَوِىّ، حَيْثُ كَانَ يجلس عُمَر بْن الْخَطَّابِ فيدير العالَم ويحكم الأمة شرقًا وغربًا فِى واحد من البرلمانات العَظِيمة فِى تاريخ البشرية ما بين صَحَابَة يختلفون معه، وصَحَابَة يحاورونه، وصَحَابَة يواجهونه، ويناظرونه إِلَى حدّ أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ القَائِد العَسْكَرِىّ صاحب الفُتُوحَات والمجد، وحامل نيشان ورتبة كَبِيرة جدًّا من الرَّسُّول عَلَيْهِ الصلاة والسلام بأنه سَيْف اللهِ الْمَسْلُول (عِنْدَمَا أطلق الرَّسُّول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ على خَالِد بْن الْوَلِيدِ لقب «سَيْف اللهِ الْمَسْلُول» لم يكُن ذَلِكَ لأَنَّهُ انتصر، ولكن لأَنَّهُ أنقذ الْجَيْش بالانسحاب.. قدرته على الانسحاب هِىَ الَّتِى جعلته سَيْف اللهِ الْمَسْلُول، إذن لَيْسَ بالضرورة أن النصر والانتصار العَسْكَرِىّ والمجد الضخم هُوَ الَّذِى يجعلك عَظِيمًا مهيبًا، وَإِنَّمَا مجرَّد القدرة على إنقاذ الدم المسلم يجعلك بطلًا، وقمة من قمم التَّارِيخ العَسْكَرِيّ والدِّينِىّ) عِنْدَمَا رُفعت عَنْهُ هَذِهِ المهابة.. مهابة القَائِد، وهَذِهِ الهيبة.. هيبة المنتصر، هَذَا الفارس تَرَجَّل وذهب إِلَى الفاروق عُمَر بْن الْخَطَّابِ فِى المَسْجِد مقرّ الخِلاَفَة وجلس إِلَى السجادة الجالس عليها عُمَر بْن الْخَطَّابِ فلم نعرف لَهُ كرسيًّا أو عرشًا أو حَتَّى مرتبة أو فرشتين بعضهما فوق بعض. وقال خَالِد بْن الْوَلِيدِ لعُمَر بْن الْخَطَّابِ: «لقد شكوتُك والله إنك لَغير مُحِقّ فِى أمرى».
عَلَى الرَّغْمِ من أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ كَانَ يحدِّث أَمِير الْمُؤْمِنِين، فإنه كَانَ يملك هَذِهِ الحرية، وهَذِهِ القدرة على المواجهة، والمناظرة، والشكوى، بل ورفض القرار. فردّ عَلَيْهِ سيدنا عُمَر بْن الْخَطَّابِ الردّ العمرى الَّذِى هُوَ مفتاح شَخْصِيَّة عدله، وعدل شخصيته، ومفتاح عَظَمة الأُمَم، وتساءل عُمَر بْن الْخَطَّابِ السؤال الَّذِى سأله الحاكم فتأكد أن الأُمَّة ستسير على نحو رائع ومدهش ومتقدم. سأل عُمَر بْن الْخَطَّابِ خَالِد بْن الْوَلِيدِ: «من أين لَكَ هَذَا الثَّرَاء؟» كَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ يسأله عن ماله وثرائه. ينتصر خَالِد بْن الْوَلِيدِ ويفتح فُتُوحَات عَظِيمة، وينتصر فِى معارك كَبِيرة، على عينى ورأسى، لكن هَذَا فِى النِّهَايَة لاَ يكون محصّلته ثراءً وتربُّحًا واستغلالا. سأله عُمَر بْن الْخَطَّابِ: «من أين لَكَ هَذَا الثَّرَاء؟»، فرد عَلَيْهِ خَالِد بْن الْوَلِيدِ: «من الأنفال»، أى من الغنائم الَّتِى يحصل عليها باعتباره قَائِدًا من القُوَّاد كما يُوجِب قانون أو عرف توزيع الغنائم، وأضاف خَالِد بْن الْوَلِيدِ: «ما زاد على الستين ألفًا فلك»، وزاد مال خَالِد بْن الْوَلِيدِ على الستين ألفًا بعشرين ألفًا، فضمَّهَا عُمَر بْن الْخَطَّابِ إِلَى بيت المال، الأمر واضح عند عُمَر بْن الْخَطَّابِ لاَ لبس فِيهِ، ولا لفّ، ولا دوران.
خَالِد بْن الْوَلِيدِ قَائِدٌ عَسْكَرِىّ، وبطل من الأَبْطَال، وفارس من الفرسان، وقُل ما شئت من الألقاب والمزايا والصفات، لكن عند هَذِهِ النقطة، وعند هَذَا الخط الأحمر، فلا.. لاَ يُوجَد استغلال أو تربُّح، ولاحِظْ أنَّنَا نتحدث عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ الصَحَابِىّ الْجَلِيل والمبشَّر بالجنة، وخَالِد بْن الْوَلِيدِ صَحَابِىّ آخر، وَهُوَ ما يعنى أن لاَ أحد فوق النقد، أو أنه مَا دَام صَحَابِيًّا فإنه لاَ يخطئ ولا يقترب من المال، ولكن ما حدث أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ اعتقد أن ذَلِكَ حقُّه، وانْتَهَى بِهِ الأَمْر إِلَى أن ذَلِكَ لم يكُن من حقِّه، ومِن هُنَا اختصمه عُمَر بْن الْخَطَّابِ وعزله.