لقد نجح الإخوان فى إقامة دولة داخل الدولة. ينبغى أن نصارح أنفسنا بهذا. دولة عميقة أيضًا، لها امتداداتها فى شرائح اجتماعية مختلفة، ولها امتدادات بيروقراطية، ولها جهاز إعلامى وجهاز إشاعات، ولها خلايا نائمة، تنقل وترصد، ثم تحلل بقدر ما يسمح لهم أفقهم بالتحليل.
هذه الدولة لها اتصالات خارجية، لها حلفاء، يخاطرون بعلاقاتهم مع الدولة المصرية الرسمية من أجلها. لها سفراء غير رسميين. ولها محطة تليفزيونية عالمية، بالعربية وبالإنجليزية، لا تملك مثلها الدولة المصرية الرسمية.
ثم إن هذه الدولة لها تنظيمات مسلحة، وتنظيمات ميليشياوية شبه مسلحة، والأكيد الأكيد أنها على علاقة بتنظيمات مدربة تدريبًا عاليًا، مستعدة لتقديم الخدمة، مقابل أجر فى الدنيا وأجر فى الآخرة. وقد تكشف الأيام عن امتدادات لها قد تستطيع الوصول إلى سلاح آخر.
لا تستهينى بقوة الإخوان. هذه القوة، بمفرداتها التى ذكرت أعلاه، أرغمتنا جميعًا على السير فى المسار الذى ارتضوا به يوم ٤ فبراير ٢٠١١. أرغموا القوى الثورية عن التخلى عن مسار الثورة الأصلى، وأرغموا الدولة القديمة على الرضوخ لشروطهم، فلم تكن تلك الدولة لتأخذ قرارًا فى أى اتجاه لا يوافق عليه الإخوان.
وهذه القوة لن تتلاشى بين يوم وليلة. وبالتالى يجب أن نتوقع -كأناس عقلانيين- أن يحقق الإخوان انتصارات مرحلية، هنا أو هناك. وبصورة مبسطة: الإخوان أفضل إعلاميًّا خارجيًّا، سيحرزون انتصارات فى هذا المجال، والإخوان لهم اتصالات دولية لا بأس بها، أمريكا حتى الآن تحميهم، والاتحاد الأوروبى مصر على وجودهم فى السلطة، والأتراك معهم. مكنهم هذا حتى الآن من حيازة انتصارات، تتمثل فى تعطيل لمسار خارطة الطريق، وتعطيل لمسار الانتعاش الاقتصادى.
إنما ميدان ضعف الإخوان هو الداخل المصرى، منصة دولة رابعة لم تعد تبالى به. والرسالة الإعلامية التى يمكن أن تنتصر فيها الدولة عاجلًا وتنفعها آجلًا هى الرسالة الداخلية. لا أقول يجب أن نهمل الخارجية، وإنما أقول يجب أن لا ننسى الرسالة الداخلية. الخطاب البسيط الذى يضع للناس حقائق ما يخسرون بسبب ما يفعله الإخوان أجدى من وسائل الشحن القديمة، لأن هذا خطاب يمس الناس فى حياتهم اليومية، والفقراء منهم بخاصة. ستحتاج الدولة إلى الدعم الشعبى فى مراحل لاحقة، فلتستعد لذلك من الآن.
والعلاقات السياسية التى يمكن أن تنتصر فيها الدولة عاجلًا وتنفعها آجلًا هى العلاقات السياسية الداخلية. مواجهة هذه الأزمة تحتاج إلى تحالف سياسى واسع. وهذا لا سبيل إليه إلا بطريقتين، إما الخضوع لطلباتهم وضمهم إلى هذا التحالف، وبالتالى العودة إلى مسار ٤ فبراير ٢٠١١ بصيغة أوسع (خارطة الطريق التى رسمها عمر سليمان مع الإخوان وقوى الرعاية الأمريكية). وهذا من وجهة نظرى كارثة ستضرب التأييد الشعبى لـ٣٠ يونيو فى مقتل، وتعيدنا إلى جو التشرذم الذى لم يستفد منه إلا الإخوان. وبالتالى فالخيار الآخر هو توسيع قاعدة الحكومة الحالية من بين مؤيدى ٣٠ يونيو. وسأتكلم بوضوح.
الحكومة الحالية تحتاج إلى وجوه محسوبة على الدولة القديمة. فى هذا مصلحة استراتيجية للقوى الثورية نفسها. لكن هذه نقطة جانبية. الأهم أن فيه مصلحة استراتيجية لمصر، ومصلحة استراتيجية بالنسبة إلى المسار المنبثق عن ٣٠ يونيو. كيف؟
أولًا: خطوة كهذه ستسهم فى تقوية صف الدولة، وتحييد الحملات الإعلامية الداخلية، ومنع ظهور «طرف ثالث» سياسى بين مؤيدى ٣٠ يونيو. وهو ما ينعكس ثقة أكبر تمكن الدولة من اتخاذ خياراتها دون ضغوط. مطمئنة إلى تأييد شعبى أوسع.
ثانيًا: الوجوه المحسوبة على الدولة القديمة وحدها قادرة على مقاومة التغلغل الإخوانى فى المناطق الفقيرة والريف والنجوع. ولقد رأينا هذا بأعيننا فى مظاهرات النجوع قبيل ٣٠ يونيو.
ثالثًا: هذا مفيد بالنسبة إلى مستوى الخدمات. الدولة القديمة صاحبة اليد الطولى فى الجهاز البيروقراطى (والأمنى). لا تستهينى به، فهو قادر على قرص الأذن، وعلى الملاعبة على الشناكل، وعلى التعطيل.
رابعًا: هذا رسالة سياسية للإخوان. انسى موضوع أنه سيشق الصف الثورى. لقد انشق هذا فعلًا إلى مجموعة تؤيد فكرة الدولة الحديثة ومجموعة تعاديها. والذين تخشين أن يغضبوا من خطوة سياسية كتلك غاضبون أساسًا، وليسوا موجودين حاليًا فى صف الدولة. الرسالة السياسية مفادها أن فى صف الدولة قوس قزح سياسيًّا يجتمع على فكرة الانتصار للدولة المصرية الوطنية، وعلى مواجهة المشروع الإخوانجى لمصر، حتى لو اختلف على تفاصيل وتوجهات. ورسالة سياسية مفادها أن الصندوق نفسه لن يخدمكم مثل ذى قبل. وهذا ينقلنا إلى النقطة التالية.
خامسًا: المصلحة الانتخابية للقوى المدنية متحققة أكثر بإجراءات سياسية كتلك، توحى بأن لدينا سياسيين قادرين على تحمل المسؤولية ومدركين لأعبائها والقرارات الصعبة التى تأتى معها. وأن ٢٥ يناير حين نادت بدولة ديمقراطية، نتعايش فيها معًا، لم تكن تقصد معية ميدان التحرير، بل معية الوطن كله. تقسيمة الثورة الفلول، بعد تجربة حكم الإخوان، تقسيمة فى عقول نشطاء وسط البلد فقط (وعقول الإخوان ما دامت فى مصلحتهم).
هناك، عند هذه النقطة التوافقية الداخلية، تستطيع الحكومة أن تكون أكثر ثقة بنفسها. تستطيع أن تختار المواجهة إن أرادت، مواجهة الإخوان ومواجهة الضغط الخارجى. أو تستطيع حتى أن تقدم تنازلات سياسية للإخوان. تنازلات من موقع الحكومة الواثقة، وليس الحكومة الراضخة. تنازلات تضعهم فى حجمهم بالقياس إلى الوطن كله، وليس بالقياس إلى ميدان التحرير. وتنازلات تخفف الضغوط الخارجية. والأهم من ذلك، تنازلات ستكون لاحقًا وبالًا عليهم. كيف؟
لقد كانت هزيمة الإخوان السريعة فى ١٩٥٤ و١٩٦٥ أكبر دليل استخدمته الجماعة على أنها لم تكن تملك تنظيمات مسلحة بالحجم الذى أشاعته السلطة، ولا كانت تملك مواءمات واتفاقات سرية خارجية كما أشاعت السلطة. الهزيمة السريعة جعلت الشعب يصدقهم ويشكك فى رواية السلطة. هذه المرة، انتصاراتهم الجزئية بسبب تنظيماتهم ومواءماتهم الخارجية ستكون دليلًا ضدهم. منتهى القول أنها لن تحقق لهم أبدًا نصرًا حاسمًا. ستحقق لهم بعض انتصارات جزئية. يمكن لأنصار الدولة أن يعطوها لهم، وهم فى موقع قوة ووفاق وليس قبل ذلك، فسوف تستدرجهم إلى حتفهم السياسى. عاملوا السياسة بمعايير السياسة!