تخيلوا معى سفينة نوح بين أمواج عاتية وصخور حادة، تميل وتعلو وتهبط بعنف، وركابها يتصارعون على دفتها، فإذا بنفر منهم يصرخ فيهم، من باب العدالة الانتقالية علينا أن نحاسب أولا كل من أوصل السفينة إلى هذه الدوامات الخطيرة على مدى ٣٢ عاما ولا نسمح لأى «بحار» من القوات المسلحة أن يأخذ بيدها، حتى لا يأخذ السفينة ويُعسكرها، ونفقد «حريتنا المدنية».. تخيلوا معى ماذا يمكن أن يحدث لهذه السفينة لو استجاب ركابها؟!
قطعا سوف تخبط فى الصخور وتتمزق أشلاء وتغوص فى قاع المحيط.. ولا تيتانيك!
هذا ما أحسست به من مقالات الدكتور عمرو حمزاوى الأخيرة، فنحن وسط «مأزق» خطير يمسك بتلابيب الأمة المصرية، ويكاد يتحول إلى اقتتال داخلى، وبدلا من أن يرشدنا إلى طريق يجنبنا مخاطر الانزلاق، راح يدفع بنا إلى مسارات جانبية بكلام لطيف يزيد من حدة الصراع، دون أن نغمضه حقه فى الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
وبداية لا نسأله الاعتراف بالإرادة الشعبية التى نزلت فى ٣٠ يونيو، ولا تغيير رأيه فى وصفه الحالة المصرية بأنها انقلاب ناعم، وإنما نناقشه فقط فى التفسيرات النظرية لواقع مضطرب.
وبالطبع يصعب أن نتفق معه فى الوصف، فالانقلاب العسكرى بالمعنى الشائع فى أمريكا اللاتينية أو دول أخرى لا يتماثل مع حالتنا..
أولا: البيئة التى تحركت فيها القوات المسلحة المصرية مختلفة تماما عن بيئة أى انقلاب عسكرى بالمفهوم المعتاد، ويجب توصيف هذه البيئة بعيدا عن مؤثرات القبول والرفض، والبيئة كانت مؤيدة وداعمة لجلب القوات المسلحة إلى المشهد السياسى، بل يمكن أن نصفها بأنها كانت محرضة، ولم تكن أقلية تستنجد بقوة الجيش فى مواجهة أغلبية تستند إلى شرعية صناديق الانتخابات، العكس كان صحيحا، أغلبية هائلة رافضة لنتائج هذه الصناديق، ودعت الرئيس المعزول إلى انتخابات رئاسية مبكرة، لتفصل الصناديق فى هذه الشرعية بالسحب أو الترسيخ، لكنه رفض بعناد وشراسة، محتميا بجماعته وقدرتها على الدفاع عنه سلما وعنفا، وقد جرب الجماعة فى فك اعتصام الاتحادية الشهير بالعنف والدماء.
ثانيا: لم يلجأ الشعب إلى جيشه حبا فى الاستبداد «والبيادة» كما يحاول أنصار المعزول إهانة شعبهم، وليس انقلابا على مدنية الدولة، ولا تعنينى النخبة، ومنها الدكتور حمزاوى نفسه، وهى معزولة إلى حد ما عن شعبها، ولا تستطيع لو وقفت على رأسها ولعبت حواجبها أن تُخرج هذه الملايين إلى الشوارع والميادين والقرى والكفور والنجوع.
وقطعا الشعب هو صانع٣٠ يونيو، وبوعيه الداخلى أدرك أن أى نضال مدنى ضد الإخوان هو نضال خاسر حتما، لأن مرسى غير مبارك، مرسى له قبيلة وعشيرة، وتنظيم خاص يمارس العنف دفاعا عن مصالحه إذا لزم الأمر، وتنظيم عالمى له علاقات دولية واتفاقات سرية تتيح له حشد دعم لا ينضب للجماعة فى مصر..
فى الوقت نفسه أممت الجماعة النيابة العامة المصرية جناحا قانونيا لها فى الدولة، بتعيين المستشار طلعت عبد الله نائبا عاما، والدلائل لا تحصى ولا تعد، وكان يمكن أن يحال الآلاف من النشطاء الفاعلين فى المجتمع إلى المحاكم بقضايا مخططة، لا يهم الحكم فيها، وإنما هى معاول هدم وتشتيت لكل حركات التمرد على الرئيس مرسى.. يعنى كانت الجماعة تملك القوة والقانون معا مع دعم دولى من الغرب، لأسباب لا تخفى على الدكتور حمزاوى، فى مواجهة المصريين.
إذن ماذا يفعل المصريون؟!
العودة إلى جيشهم يما يحمله من تاريخ بالوقوف مع شعبه.
السؤال الأهم: هل كان يجب أن تستجيب القوات المسلحة لنداء غالبية المصريين ضد شرعية الصندوق الدستورية؟!
الإجابة المتعجلة: قطعا لا.
الإجابة الضرورية: قطعا نعم، ولماذا؟!
كان يمكن أن تظل القوات المسلحة بعيدة عن المشهد السياسى بالرغم من اضطرابه وفوضويته وتهديداته للسلام المجتمعى إذا كانت هناك بارقة أمل للحل أو تخفيف حدته، فى ظل إصرار الجماعة على الاستحواذ والتمكين، نهيك بالمخاطر الهائلة التى تحيط بأمن مصر القومى خارجيا ويإلحاح متزايد.
إذن كانت القوات المسلحة فى وضع مستحيل أن تؤدى فيه دورها، فكيف لجيش أن يحمى وطنا جبهته الداخلية مهلهلة، وحكامه لهم علاقات وطيدة بتنظيمات تهدد أمنه، بالإضافة لإسرائيل؟!
السؤال الآخر: هل استدعاء القوات المسلحة إلى المشهد السياسى خطر على الدولة المدنية؟!
الخطر الأكبر عليها هى، فقد جربنا انغماسها فى الشؤون الداخلية فى الستينيات من القرن الماضى، والنتيجة كانت كارثة ١٩٦٧، لكن هذه حالة استثنائية ومؤقتة وعلينا أن لا نجعلها تطول، إما عن الدولة المدنية، فالمصريون الآن حالة مختلفة ولن يسمحوا بأى تهديد يقترب منها!