فى عتمة الليل، خرج الحبيب (ص) من مكة مهاجرا إلى يثرب.. التفت إليها وهو يغادرها ليقول قولته الخالدة: «والله إنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت».. درس عالٍ فى الوطنية.. ولِمَ لا، وهو القائل: «حب الوطن من الإيمان»؟ لعله تذكر البيت الذى ولد فيه، والحى الذى شهد ملعبه وصباه، وشبابه الباكر، ورجولته.. لعله تذكر جبال مكة ووهادها، والبيت الحرام، وزمزم.. لعله تذكر غار حراء، وجبريل عليه السلام، ودار الأرقم، وخديجة (رض).. وما أدراك ما خديجة.. فى دار الهجرة حين استقر المقام بالصحب الكرام، راودهم الحنين إلى مكة، فأنشد بلال (رض) يقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولى اذخر وجليل؟ وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لى شامة وطفيل؟ وحين سمع النبى (ص) وصف مكة من أصيل، جرى دمعه حنينا إليها، فقال: «يا أصيل، دع القلوب تقر».. هذا درس آخر ينبغى أن تعيه الحركة الإسلامية.
مصر هى وطننا.. مصدر فخرنا وعزنا.. وطن الآباء والأجداد.. وطن التاريخ والحضارة، والشعب الطيب، وخير أجناد الأرض، وماريا القبطية، زوج النبى محمد (ص)، وأم ولده إبراهيم، والأزهر، والعلم، والوسطية، والاعتدال.. فيه ولدنا، وعلى أرضه نشأنا، وفى ربوعه ترعرعنا، وفى أحضانه تربينا وتعلمنا.. إذا ابتعدنا عنه يوما، شدّنا الشوق والحنين إليه.. ومن أرق ما عبر عن هذا الحنين تلك الأبيات التى نظمها شوقى فى منفاه بالأندلس، يقول: يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم ناسى لوادينا؟ ثم يقول: يا ساكنى مصر إنا لانزال على عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا، هلا بعثتم لنا من ماء نيلكم شيئا نبل به أحشاء صادينا، كل المناهل بعد النيل آسنة ما أبعد النيل إلا عن أمانينا.
فرض علينا إعلاء شأن وطننا، ورفعة رايته والذود عن حماه.. إذ بدون وطن حر عزيز لا تستطيع أن تعيش فى أمن وأمان، ولا أن يتحقق استقرار أو تقدم أو ازدهار.. هذا هو دور الجيش، حامى حمى الوطن، ودرعه الواقية.. إحدى أهم مؤسسات الدولة، بل هو أهمها على الإطلاق.. ومن هنا كان لابد من الحفاظ عليه والارتقاء به.. هو مدرسة الوطنية المصرية.. هكذا كان دائما، وسوف يكون إلى آخر الزمان.. يحمى، لكنه لا يحكم.. هو جزء من الشعب وملك له.. يستدعيه فى مرحلة أو ظرف تاريخى ما، لكى يحسم أمرا ويحقق رغبة ويستجيب لإرادة.. تماما كما حدث فى ثورة ٣٠ يونيو، ومن قبل فى ٢٥ يناير.. تجربتنا مع المجلس العسكرى فى فترة الـ١٨ شهرا، كانت تجربة مريرة، وكارثية، وأعتقد أنه لا أحد يتمنى تكرارها.. وللجيش المصرى ثقافته وطبيعته.. هو مؤسسة ثقافة السمع والطاعة والثقة فى القيادة بامتياز.. مؤسسة طبيعتها الحسم والحزم والصرامة والقوة.. منظومة متكاملة فى تشكيلاتها وفروعها، براً وبحراً وجواً، ويمثل التسلسل القيادى عمودها الفقرى.
يأخذ الجيش من السياسة ويعطيها.. يأخذ منها ما يعينه على أداء واجبه وإتمام مهامه، من حيث تحديد الأهداف والوسائل والأدوات والمواقف، ومتى يتقدم ومتى يتأخر.. ويعطيها ما يحققه لها من مكتسبات وانتصارات على أرض الواقع، من حيث فرض الإرادة على الخصم وقوة التفاوض معه، فضلا عن عزة الوطن وحريته وسلامة أراضيه.. غير أن الحياة المدنية لا تناسبه، ولا يناسبها، إذ من الصعب التعامل مع الشعب على أنه كتيبة أو سرية.. فالشعب بطبيعته لا يطيق حياة الجندية، بما فيها من قيود وانضباط وصرامة.. ويضبط الدستور العلاقة بين مؤسسة الجيش وبقية مؤسسات الدولة، وبين ما هو مدنى وعسكرى.. وبقدر ما يكون الجيش قائماً بمهامه على الوجه الأكمل بقدر ما يكون مهابا ومقدرا ومحترما من الشعب، وبقدر ما يكون أيضا مهابا من أعداء الوطن.
معركة الجيش المصرى- حسب عقيدته القتالية- هى مع العدو الصهيونى، أمس واليوم وغدا، لكنه فى هذه الأيام يخوض معركة من نوع مختلف.. معركة ضد بؤر العنف والإرهاب فى سيناء، وهو ماض فى خطته بنجاح نحو استقرار الأوضاع هناك، وبما ينعكس إيجابا على الأمن القومى لمصر.. وكما هو واضح لن يتوقف حتى تنتهى هذه البؤر تماما، كى تبدأ سيناء عهدا جديدا من الإعمار والتنمية بعد عهود من التهميش والإهمال.. ولاشك أن إعلان أحد الإخوان، من على منصة رابعة، عن توقف أعمال العنف والإرهاب فى سيناء حال إعادة الدكتور مرسى إلى سدة الحكم، له أبعاده الخطيرة، كما أنه يعتبر سقطة قاتلة كلفت وسوف تكلف الإخوان غالياً.