ما ذكرناه فى مقال الأسبوع الماضى عن الفلسفة الحاكمة للدستور القادم الذى يقيم الدولة المصرية المدنية الحديثة يجعل الكثير من التفاصيل تتداعى أمام لجنة العشرة، وما يعقبها من لجنة الخمسين أثناء التداول فى الأمر. فمن الطبيعى ألا تكون هناك أحزاب دينية فى دولة من هذا النوع، وليس معنى ذلك أنه ليس من حق الأفراد أن يكون لديهم ما يعتقدون من مرجعيات تحدد أفكارهم وسياساتهم المقترحة. ومن الطبيعى أيضا ألا تكون هناك جماعات سرية غير مفتوحة العضوية للمواطنين، وغير معروفة التمويل، وغير خاضعة لمراقبة الأجهزة المنوط بها الحماية من الفساد والانحراف، فلا توجد فى الدول الديمقراطية جمعيات لها أجنحة سياسية وأخرى عسكرية، لأنها فى الأول والآخر «أهلية»، تعبر وتعبئ طاقات شريحة من شرائح المجتمع من أجل النفع العام. ويفترض فى هذا المجال أن «السياسات» ليس مكانها الدستور، فلا يجوز إقرار أن الشعب المصرى جزء من الأمة العربية، وأن دولته تعمل على تحقيق الوحدة العربية، رغم أن ذلك يمكن أن يكون منهجا لدى حزب أو مجموعة من الأحزاب، ولكن وضعه فى الدستور قد يكون فارغا من المضمون، أو أنه يُحمّل الدولة ما لا تطيق. وفى دولة مدنية وديمقراطية، فإنه لا يجوز وجود تمييز من أى نوع، لا للعمال ولا الفلاحين، ولا للمرأة، وإنما مجال تحقيق المساواة هو السياسات العامة التى ترفع الظلم وتقيم العدل بين جماعات المواطنين.
وهكذا يسير المنطق وينطبق على أمور أخرى قد تبدو حساسة، ولكن، وبصراحة، فإن هذا هو الوقت الذى يتقرر فيه ليس مصير الوطن فقط، ولكن مستقبله أيضا. وقد أحسن الذين أصروا على أن يكون ما نحن بصدده فى مصر ليس خريطة للطريق، وإنما الأهم خريطة للمستقبل، تحسم فيها كل القضايا المعلقة فى التاريخ المصرى، والتى لم تناقش بالحكمة اللازمة وفى الوقت المناسب، فكانت النتيجة سلسلة من الإخفاقات المستمرة التى وقفت فى طريق انطلاقة البلاد إلى المكانة التى تستحقها بين الأمم. وبقدر ما كانت قضية «الدين والدولة» لها من الحساسية ما تستحقه، فإن قضية العسكر والدولة لها الأهمية نفسها، خاصة أن الواقع الراهن قد دفعها إلى المقدمة نتيجة عاملين: الدور البطولى الذى قامت به القوات المسلحة عندما استجابت للإرادة الشعبية فى إعادة الدولة المصرية إلى مسارها المدنى الديمقراطى بعد أن كانت آخذة فى الانزلاق التدريجى إلى النموذج الإيرانى فى الحكم، والدور البطولى والحكيم للفريق أول عبدالفتاح السيسى فى عملية نقل السلطة من الجمعية السرية للإخوان المسلمين إلى الشعب المصرى مرة أخرى. كلا العاملين، مضافا إلى النزول الشعبى غير المسبوق إلى الشوارع والميادين، خلق حالة تاريخية، فيها من الحماس والعاطفة والوطنية ما قد يجعلنا ننسى أننا بإزاء خريطة للمستقبل، وإنما نكون فى اتجاه إنتاج خريطة للماضى عندما جرت المشابهة المفتعلة بين ما حدث فى ٣٠ يونيو و٣ يوليو و٢٦ يوليو ٢٠١٣ وبين ما جرى فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢. وبصراحة، فإن الليلة ليست أشبه بالبارحة، وما نريد إقامته من نظام ليس هو نظام يوليو، ومن المؤكد أن الفريق أول السيسى ليس جمال عبدالناصر.
أعرف أن هناك كثيرين لديهم «نوستالجيا» الفترة الناصرية، وليس لدى الرغبة فى الدخول فى المناقشات الخاصة بفترة تاريخية أصبح الحكم فيها للتاريخ، وما يعنينا الآن ليس عما إذا كان رأس الدولة مدنيا خلع الرداء العسكرى، وإنما القوات المسلحة تداخلت بقوة فى إدارة الدولة المدنية عندما كان لها نصيب وافٍ بين الوزراء والمحافظين ورؤساء المدن وقيادة الشركات والمؤسسات العامة والقطاع العام، وفى فترات الأندية الرياضية، حتى وصل الأمر إلى سفراء وزارة الخارجية.
ولا يوجد هناك شك فى أن كثيرين من العسكريين قد نجحوا فى مواقعهم وأبلوا بلاء حسنا فى جميع المجالات، ولكن مثل هذا الخلط كان له أيضا نتائجه السلبية على إمكانيات التطور الديمقراطى للبلاد، كما أنه أثر بالتأكيد على الكيفية التى أديرت بها سياسات الأمن القومى للدولة، حتى كان احتلال سيناء مرتين خلال هذه الفترة من قبل إسرائيل، حتى كانت حرب الاستنزاف المجيدة، وحرب أكتوبر العظيمة التى وضعت الأساس للدبلوماسية لتحريرها. المسألة التى لا تقل أهمية هى أن الدولة المدنية الديمقراطية لا تعرف مثل هذا التداخل، ويظل للجيش الوطنى، ليس فقط مكانته فى الدفاع عن التراب الوطنى، وإنما أيضا التعبير عن الإرادة الشعبية فى اللحظات المفصلية من تاريخ الشعوب. ومن المعلوم أن القسم الذى يؤديه ضباط وجنود القوات المسلحة الأمريكية يقوم على الدفاع عن الولايات المتحدة ضد الأخطار التى تهددها فى الداخل والخارج. ولعلنا من الواجب أن نُبقى فى أذهاننا أن الجيش قد تعهد بالقيام بدوره منذ البيان الأول ضمن الإطار الذى ارتضته الدول المدنية الديمقراطية الحديثة.
الفريق أول عبدالفتاح السيسى قصة أخرى تحتاج بعضا من التمحيص ورجاحة العقل وبرودة القلب فى لحظة حرجة من تاريخ الوطن. ولحسن حظى فقد قابلت الرجل مرتين، واحدة منهما وسط جمهرة من المثقفين والإعلاميين والفنانين، والأخرى كانت وسط قيادات القوات المسلحة. وفى الحالتين كان هناك ما يبهر من صفات قيادية، و«كاريزما» تعطى الكثير من صفات الزعامة والقيادة، وباختصار كان لديه «قماشة» الزعامة الوطنية، فى لحظة يشتاق فيها الوطن إلى «زعيم».
ولذلك فإننى لا أبخس الذين نادوا به رئيسا للبلاد حقهم، ومع ذلك فإننى أدعوهم للمراجعة، لأن ما استندوا إليه من مثال أيزنهاور وديجول فيه كثير من الاستعجال وعدم الدقة التاريخية. فالحقيقة التاريخية تقول بما هو أكثر من ذلك، وهو أن التاريخ القديم كله منذ مينا موحد القطرين، وعبورا بالإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وصلاح الدين الأيوبى ومحمد على كانت فيه قيادة الدولة لمحاربين، ولكن الدولة المدنية الحديثة التى نريدها فى خريطة المستقبل باتت أمرا آخر، وعندما جرى اختيار أيزنهاور فقد كان بعد أن ترك الرجل القوات المسلحة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات ومن خلال حزب سياسى - الجمهورى - تبناه وصاغ له رؤاه وأحاطه بخبرائه وسياسييه. أما بالنسبة لـ«ديجول»، الذى جاء منقذا كما هو الحال مع الفريق أول السيسى، فإن مجيئه إلى السلطة حدث بعد سنوات من تركه القوات المسلحة الفرنسية بعد تحرير فرنسا، ودخل السياسة مستندا إلى حزب سياسى قام بوضع الأسس للجمهورية الخامسة التى ارتضاها الشعب الفرنسى. فى الحالتين- إيزنهاور وديجول - صار الجنرال جزءا من النسيج السياسى المدنى، الذى يخضع فيه للمنافسة مع آخرين، وبعد فترة كافية من الانخراط فى الحياة المدنية.
مرة أخرى، فإن المعيار فى الأول والآخر هو الشروط والظروف المواتية للدولة الديمقراطية الحديثة، كما عرفتها دول العالم الأخرى التى سبقتنا إلى هذا المجال، والتى نضجت فيها عمليات تداول السلطة. لقد عشنا ستة عقود كانت فيها فكرة تداول السلطة مستحيلة، ولكن من ثاروا على السلطة قاموا عن غفلة أو سذاجة بتسليم السلطة إلى من شرعوا فى جعل السلطة صنوا للإسلام، الذى لا يقبل التداول أو التغيير وفقا لولاية المرشد فى أسوأ الأحوال، أو ولاية الفقهاء فى أحسنها. هذه المرة علينا أن نحسن الاختيار، ونتلمس خطواتنا بحيث نصنع المستقبل ولا نعيد إنتاج الماضى بحلوه ومره، الذى فى كل الأحوال لم ينجح فى عبور البلاد إلى الشواطئ العظمى البعيدة.