بعض المؤرخين يشكِّك فِى أنه كَانَ مِن كَتَبَة الْوَحْى وَإِنَّمَا كَانَ من كَتَبَة رسائل النَّبِىّ، وهَذَا الخلاف التَّارِيخىّ دقيق ومهمّ ويفتح لنا أُفُقًا للجدل التَّارِيخىّ. هَذَا الشَّخْص الَّذِى عَفَا عَنْهُ النَّبِىّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يومَ فَتْح مَكَّة هُوَ نفسُه يُصبِحُ حاكمًا لمصر وفاتحًا لإفريقيا، وأحد الَّذِينَ ردُّوا لعُثْمَان بْن عَفَّانَ جَمِيلَهُ وشارك فِى وضعه على مَقْعَد الخِلاَفَة.
عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ، هذا الشَّخْص الذى لعب هَذَا الدور الكَبِير من مَرْحَلَة الإِسْلاَم الأولى إِلَى مَرْحَلَة الرِّدَّة إِلَى اسْتِبَاحَة قَتْلِه إِلَى النجاة من القَتْل، هُوَ الَّذِى يُصبِح حاكمًا لمِصْر وأحد شركاء عَمْرو بْن الْعَاصِ فِى فَتْح مِصْر ثم فتح إِفْرِيقيا. فِى هَذِهِ اللحظة قد تتعجَّب وتَقُول: هل مَعْقُول أن هَذَا الشَّخْص هُوَ الَّذِى كَانَت إِرَادَة النَّبِىّ فِى أَنْ يَمُوتَ ويُقتَل؟ فتكتشف أن الإِرَادَة الإلهيَّة هِىَ الأَعْلَى وَهِىَ الَّتِى أرَادَتْ لِهَذَا الشَّخْص الَّذِى كَانَ من الْمُمْكِن أن يُقتَل فِى يومٍ.. فِى ساعةٍ.. فِى لحظة فَتْح مَكَّة.. أن يلعب دورًا تَارِيخِيًّا، ولكن وَهُوَ يلعب هَذَا الدور التَّارِيخىّ وفى أَثْنَاء حضوره الحياةَ النَّبَوِيَّة، أى ووجوده مع النَّبِىّ فِى حياته، كَانَت دموعه تتساقط مِنْهُ ندمًا وتوبةً لأَنَّهُ يعرِف مَاذَا فعل، وكان يتساءل دومًا: «أيغفر لِى ربِّى ما اقترفتُه فِى حقّ الإِسْلاَم وحق الرَّسُول الكَرِيم؟»، وكان النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يجيبه بأن الإِسْلاَم يجبُّ ما قبله، وعَلَى الرَّغْمِ من هَذَا عاش عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ فترة حياة النَّبِىّ لاَ يَسْتَطِيع مقابلته، وَكُلَّمَا رآه فرّ مِنْهُ خجلاً وخِزْيًا لدرجة أن عُثْمَان بْن عَفَّانَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يقف وراءَهُ ويصافِحُه ويسلِّم عَلَيْهِ.
شارك عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ فِى جيش عَمْرو بْن الْعَاصِ الَّذِى فَتْح مَكَّة، ومن الْمُمْكِن أن تعتبره، ببساطة شديدة، أحد قادة حركة فَتْح مِصْر، بِالطَّبْعِ يَعُود الفضل السِّيَاسِىّ والعَسْكَرِىّ والدِّينِىّ لفَتْح مِصْر إِلَى عصر عُمَر بْن الْخَطَّا بِ وقيادة عَمْرو بْن الْعَاصِ، وعِنْدَمَا علم عُمَر بْن الْخَطَّابِ بالدَّوْر البُطُولِىّ والتَّارِيخىّ الَّذِى قام بِهِ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ قرَّر تولِيَتَهُ حُكْمَ الصَّعِيد. لاحِظْ أن عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ -كشخص يطارده هَذَا الْمَاضِى ونَجَا يوم فَتْح مَكَّة بأعجوبة- لا بد أَنْ يَكُونَ فِى حالة اندفاعٍ شديدٍ لإثبات تديُّنه وثباته على الحقّ، فعَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ مثل طلقاء مكَّة الَّذِين أسلموا يَوْم الْفَتْحِ بعد أن أطلق النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ سراحهم وعَفَا عَنْهُم فكَانَ لهم دَوْر كَبِير فِى الفُتُوحَات، والاستشهاد، وبذل النفس لتأْكِيد وتوكيد علاقاتهم المَتِينَة واللَّصِيقَة والقوية بالإِسْلاَم، لأَنَّهُ فِى النِّهَايَة أَيْضًا يطاردك الْمَاضِى، فَضْلاً عَنْ أن لديك رغبة فِى غسل هَذَا الْمَاضِى وتقديم نفسك باعتبارك جنديًّا من جُنُود الله ورَسُوله.
أن يَتَوَلَّى عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ حكم صَعِيد مصر فهَذَا لَيْسَ شأنًا هيِّنًا، وأن يختار عُمَر بْن الْخَطَّابِ -وَهُوَ مَن هُوَ- هَذَا الشَّخْص فهَذَا لَيْسَ سهلًا على الإطلاق، لا لأنَّ القرار صادر عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ فحسب، الَّذِى كَانَ حادًّا جادًّا، واضحًا، قويًّا صارمًا فِى اختيار الحُكَّام والولاة. عِنْدَمَا تُوُفِّىَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رضوان الله عَلَيْهِ، كَانَ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ حاكمًا واليًا على مصر وحاكمًا لَهَا، وعِنْدَمَا تولى عُثْمَان بْن عَفَّانَ الخِلاَفَة قرر أن يولِّى عَبْد اللهِ بْن سَعْدِ بْنِ أبى سرح خراج مصر. لاحِظْ أنَّ هَذَا القرار يعنى أن يُصبِح عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ وزيرًا للمالية أو أنه المسؤول عن تحصيل الأموال وخراج مصر، وهَذَا يحتاج إلى صرامة وقدرة على التحصيل والأمانة، ولم يكُن ذَلِكَ منصبًا هيِّنًا، وبِالطَّبْعِ لم يكُن عَمْرو بْن الْعَاصِ ليرتاح أبدًا إِلَى مثل هَذَا الوَضْع أو يوافق عَلَيْهِ، فأعلن خلافه واختلافه ورفع أمر الخلاف إِلَى عُثْمَان بْن عَفَّانَ، وقال لَهُ إنه يجب عزل عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ لأَنَّهُ «لاَ يمكن أن أكون أنا واليًا لمصر وليس لِى شأن بأموالها وخراجها»، لكن عُثْمَان بْن عَفَّانَ امتنع عن ذَلِكَ وقال لَهُ: «يا عمرو لقد وَلَّاه عُمَر بْن الْخَطَّابِ»، وطوال الوقت كَانَ مبرِّر عُثْمَان هُوَ اختيار عُمَر بْن الْخَطَّابِ لَهُ، والمعروف أنه عِنْدَمَا تَوَلَّى عُثْمَان بْن عَفَّانَ الخِلاَفَة أقرَّ لمدة عام حُكَّام ووُلَاة عُمَر بْن الْخَطَّابِ على اعتبار إقرار اختيار عُمَر بْن الْخَطَّابِ الَّذِى كَانَ محلّ رضا من الجميع، لكن بعد ذَلِكَ بدأ الأمر يختلف، وكان عُثْمَان بْن عَفَّانَ يحتجُّ دائمًا عِنْدَمَا يشكو إِلَيْهِ أحد الأفراد أن واليًا قد أفسد أو أضلَّ بأن عُمَر بْن الْخَطَّابِ كَانَ قد ولَّاه، وكَانَت هَذِهِ هى المصداقية الَّتِى يحملها هَذَا الرَّجُل عَبْد اللهِ بْن سَعْد، أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ كَانَ قد ولاه حكم الصَّعِيد، فمن الطبيعى أن يُوَلَى خراج مصر، فضلًا عن أنه عِنْدَمَا ولَّاه عُمَر بْن الْخَطَّابِ الصَّعِيد لم يكُن بينهما قُرْبَى، فما بالك وَهُوَ أخو عُثْمَان فِى الرضاع؟! فكيف يعزله؟