لا أستطيع حتى الآن تصديق هذا الكم المفزع من الهجوم الذى يتعرض له الدكتور محمد البرادعى نائب رئيس الجمهورية، الذى استحق وبصدق لقب «أيقونة ثورة 25 يناير.» ماذا يريد منه منتقدوه الذين بلغ بهم الأمر حدا غير مسبوق من الصفاقة والابتذال؟ هل يريدون منه أن يقود كتيبة أمن مركزى لسحق الإخوان فى رابعة والنهضة، وأن يكون صاحب الطلقة الأولى من مدفع رشاش يقتل به العشرات؟
الفارق الأساسى بين من يطالبون بسحق الإخوان وشخص فى مقام الدكتور البرادعى الحائز على جائزة نوبل للسلام، هو بين من يؤمنون بالديمقراطية وحقوق الإنسان بصدق ويريدون بناء دولة مدنية حديثة تعددية، ومن يؤمنون بأن القمع والقتل هو أقصر الطرق للخلاص. الفارق هو بين «البوب» الإنسان الذى يقدس الروح البشرية ويؤمن بأن لكل إنسان حقوقا مهما اختلف مع آرائهم، وبين من يرون القمع والقتل والسجن والمحاكمات العسكرية هى الوسائل الوحيدة الناجعة للتعامل مع المعارضين والمخالفين.
ويتناسى دعاة القمع هؤلاء القاعدة الذهبية القائمة على أن النظام الذى يقمع ويقتل معارضين من فصيل سياسى ما، لن يمانع استخدام العنف والقوة مع أى معارض له فى المستقبل، خصوصا فى دولة فى ظروف مصر، تكاد تبدأ أولى خطوات المسيرة نحو بناء نظام ديمقراطى بعد ستة عقود من نظام حكم الحزب الواحد الفاسد، الذى لم يعرف سوى القمع وتزوير الانتخابات وسائل لضمان استمراره فى الحكم.
ولا يستطيع أن ينكر، سوى من أصابه العمى، أن أنصار نظام المخلوع مبارك ممن حكمونا بالحديد والنار ثلاثين عاما يطلون علينا برؤوسهم سعداء فرحين، معلنين أنه ها قد حانت لحظة الانتقام من الجميع ممن حرموهم من فسادهم وثرواتهم. ليست هذه هى الدولة التى نود بناءها بعد ثورة 25 يناير، والتى قلنا إننا خرجنا فى 30 يونيو لاستعادة أهدافها: عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. الكرامة الإنسانية تحديدا كان الشعار الرابع الذى كان يصر الدكتور البرادعى دائما على إضافته لشعارات ثورة 25 يناير، رغم أنه لم يكن بالضرورة من ضمن الهتافات التى رددناها فى ميدان التحرير على مدى ثمانية عشر يوما.
نعم لا يمكن قبول استمرار اعتصامى رابعة والنهضة وغيرها من مظاهر العنف اليومى التى يقوم بها أنصار جماعة الإخوان الكاذبين. نعم لا يمكن القبول باستمرارهم فى الاتجار بالدين، والدعوات إلى الانشقاق داخل الجيش المصرى الوطنى، وتعذيب معارضيهم وقتلهم داخل مقار الاعتصام، واستغلالهم للأطفال أسوأ استغلال بدفعهم إلى حمل أكفانهم وكتابة «مشروع شهيد» على أجسادهم، وبناء الأسوار والسواتر الترابية فى شوارع رئيسية كأنهم ينوون خوض حرب ضد المصريين. ولكن لندعهم يفضحون أنفسهم بأنفسهم ليتبين أمام العالم زيفهم وكذبهم واتجارهم بالدين واهتمامهم بمصلحة الجماعة وما تحققه من مكاسب مادية هائلة على حساب الوطن بأكمله.
وإذا كان الإخوان يقومون الآن باستئجار شركات علاقات عامة أمريكية لدعم وجهة نظرهم لدى سادتهم فى واشنطن، والزعم بأن ما جرى فى مصر هو انقلاب عسكرى، ويمطرون وسائل الإعلام الأجنبية بسيل لا يتوقف من البيانات ليظهروا فى صورة الضحية التى يتقنون تمثيلها، فلنقم نحن من ناحيتنا بفضحهم من خلال الاستمرار فى إبداء حسن النوايا، والذهاب إلى أقصى مدى لكى نحافظ على أرواح كل المصريين.
لا يمكن أن نتجاهل أن ثمن القمع والقتل سيكون كبيرا ومريعا، ولن يضمن الاستقرار أو تعافى البلد ربما لسنوات طويلة قادمة. هل يريد أحد أن يرى تكرارا لسيناريو الجزائر فى مصر؟ هل نتجاهل أننا نتعامل مع قيادات تتاجر بالدين وترسخ فى عقول شبابهم الطيب المغرر به أن يحبوا الموت أكثر مما يحبون الحياة؟ مرشد الإخوان الهارب محمد بديع قال فى رسالته الأخيرة «للتهنئة» بالعيد ولدفع شبابه إلى قتل أنفسهم «أن الشهيد سيشفع فى سبعين من أهل بيته كلهم قد استحق النار»، أعوذ بالله، يعنى شابا واحدا له سبعين قريبا كلهم كفار؟ ربما كان هذا فى زمن قريش، ولكن فى عصرنا الحالى وفى بلد الألف مئذنة، هل هذا معقول؟
جربنا العنف والقمع على مدى عقد كامل تقريبا فى التسعينيات من القرن الماضى. كانت قوات الأمن تدخل القرى فى الصعيد وتهدم المنازل وتقتل من تشاء، وتهين النساء وتعرى رؤوسهن وتعتقلهن رهائن، وكانت المحاكم العسكرية وأمن الدولة العليا طوارئ تصدر أحكام الإعدام بلا حساب. لن أنسى عدد المرات التى جلست فيها فى قاعات المحاكم وأنا أستمع لأحكام بإعدام عشرة وثمانية وسبعة فى جلسة واحدة. ولكن ما أنهى هذه الحقبة السوداء كانت إجراءات تصالح وتفاهم أجراها النظام السابق، لا القتل والعنف فقط.
لا نحتاج إلى تكرار هذه التجربة المريرة، وسيفوز فى النهاية الطرف الأكثر تمسكا بمبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان. لن نقوم بذلك من أجل أعين عضو مجلس الشيوخ الصهيونى المهووس بالحروب جون ماكين، ولا من أجل واشنطن أو الاتحاد الأوروبى، رغم كل التقدير للجهود التى قام بها المبعوث الاتحاد الأوروبى الصامت برنارد ليون، ولكن من أجل مصر والمصريين، من أجل التمسك بأهداف ثورة 25 يناير التى لم نكن نحلم فى يوم ما بقيامها.
نعم أنا أحد المغرمين بالبوب ومبادئه، وهو لا يحتاج إلى شهادة منى أو إلى دعم. فالرجل الذى تحمل انتقادات ومؤامرات إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش لدفعه دفعا إلى دعم حرب العراق، وقدره العالم بمنحه جائزة نوبل لسعيه الحثيث لمنع تلك الحرب لن ينثنى أمام هجمات الغوغاء والجهلة. البوب لن يتخلى عن إنسانيته.