تجربة السنين الماضية تفرض السؤال حول مستقبل مشاركة الإسلام السياسى فى الحياة السياسية. رأيى فى هذا الموضوع عبرت عنه فى مقال سابق (عن استيعاب الإسلام المسيس، 2013/7/20)، وكان يتلخص فى حتمية الفصل بين حرية التعبير عن المرجعيات الدينية وغيرها، وبين محاولات مرفوضة لإدخال قراءات خاصة للنص الدينى فى المجال السياسى، وفرضها عليه. أريد هنا التطرق لمعنى ذلك بطريقة أكثر تفصيلا.
أولا أريد أن أستشهد بمنهج البحث العلمى، وكيف يفصل بين المرجعية الفكرية وعملية عرض وتقييم الناتج العلمى.. ففى تاريخ الفيزياء مثلا، هناك أمثلة مهمة لعلماء أثرت نزعاتهم الروحانية على نظرتهم لتصميم الكون والقوانين التى يجب أن تحكمه، لكن المنهج العلمى يرفض إدخال مثل هذه المرجعيات- ناهيك عن محاولة فرض منهجها- عند عرض وتقييم المنتج النهائى.
على سبيل المثال، كانت لـ«نيوتن» مرجعية دينية مركزية، انعكست فى كتاباته الفلسفية واللاهوتية الغزيرة. مع ذلك لن ترى منها أثرا فى كتاباته العلمية إلا القليل جدا (وعادة فى عبارات عابرة). ففى المجال العلمى كان عليه إقناع الآخرين من خلال المنطق والأدلة العملية فقط ولا غير. ولذلك فإن نظرياته صالحة فعلا لكل مكان وزمان (فى حدود نطاق تطبيقها)، ومقنعة لكل من يفهمها جيدا، وليس فقط لمن اتفق مع نيوتن «روحانيا».. كذلك تحدث «أينشتاين» أحيانا عن الشق الروحانى الكامن فى محاولاته لفهم الكون وقوانينه، والذى أثر على نوعية المعضلات العلمية التى حاول حلها، ونوعية الحلول التى بحث عنها. لكن هذه المرجعية الروحانية لم تدخل بالقطع بأى طريقة مباشرة فى أوراقه العلمية.. وبالقطع أيضا كان تقييم المجال العلمى الإيجابى لنظريات أينشتاين مقترنا بنجاحها فى شرح عدة ظواهر مرصودة عمليا، وليس نتيجة اتساق مرجعيتها الروحانية!
ولأن هذا النهج انتشر فى كل مجالات الحياة الحديثة، بل بنيت على أساسه الحضارة المعاصرة، فتجده يسود المجال السياسى، على الأقل ضمنيا، فى معظم دول العالم الديمقراطى.. ويترجم سياسيا هكذا:
من حق أى جماعة أن تكون لها قراءاتها الخاصة للدين ونصوصه مثلا، لكن ذلك لا يعطيها الحق فى فرض أو حتى إدخال مرجعيتها هذه داخل المجال السياسى، فهذا المجال له أسس ومعايير مختلفة.. أما غياب المعايير، والخلط بين الفقه والسياسة، فيؤدى للكارثة.
لنأخذ مثالا سياسيا مبنيا على ما سبق. نفترض أن جماعة ما تعتبر أن الاقتصاد الإسلامى هو الحل، فمن حقها أن تحاول إقناع أعضاء البرلمان بذلك، لكنها يجب أن تستند لأدلة عملية، ولا يجب أن تستخدم قراءاتها الخاصة للقرآن والسنة، أو حتى التطرق بأى طريقة مباشرة للمرجعية الفقهية. فالمطلوب هو إقناع النواب وخبراء الاقتصاد بطريقة منطقية وعملية، وحسب قواعد الاقتصاد وأوضاع البلاد.. هذه قاعدة يمكن تعميمها، أما الفشل فى تطبيقها فقد أوصلنا، مثلا، للمنظر الهزلى للجدل الأزلى الذى نتج عنه اعتماد دستورى لتفسيرات «أهل السنة والجماعة» للشريعة (ورفض أى اجتهادات خارج هذا الإطار)، وأقل ما يمكن أن يقال عنه إنه كان مضيعة للوقت.
إذا نظرت لمحتويات المكتبات العالمية الكبرى ستجد عشرات الملايين من الكتب، معظمها فى الإنتاج الإنسانى فى الأدب والفن والعلوم الإنسانية، كالفلسفة وعلوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة. لا يعقل عند مناقشة مستقبل أى بلد، سياسيا واجتماعيا، تجاهل هذا التراث الهائل وتحديد المناقشة داخل نطاق مرجعية تكبل فكر الإنسان باسم مقاصد إلهية، يعتقد البعض فى غرور غريب أنه فهمها بالكامل. فذلك يبدو أنه يتعارض حتى مع معنى جود الإنسان ككائن مفكر ومبدع ومنتج. كيف يمكن تفادى ذلك المأزق، مع صيانة حق من يعتقد فى المطلق؟
يجب ملاحظة أن حق التمسك بأى مرجعية لا يعنى إفساح المجال لاستخدام سلطة الدين الأخلاقية دون أدلة منطقية وعملية مقنعة، ومقدمة فى إطار نقدى له معايير يتفق عليها الكل، بمن فيه من يختلف جذريا مع تلك المرجعية لأسباب فكرية أو عقائدية.
لذلك، لا إقصاء لمن التزم بقواعد العقلانية المؤسسة لمجتمع تعددى منفتح، يعتمد النقاش السياسى فيه على المنطق والأدلة العملية.. ومن حق كل طرف اتخاذ مواقف سياسية تتماشى مع مرجعيته، لكن الفيصل بين المواقف يجب أن يكون مبنيا على أسس أوسع من مرجعية أى طرف، وإلا دار الجدل فى ظل سيطرة «مرجعية» أحد الأطراف على أسس النقاش.. بينما المطلوب هو صيانة حق الاحتفاظ بأى مرجعية، مع عدم القدوم على محاولة فرض تداعياتها عمليا إلا بالمعايير العملية.