عند تشكيل الوزارة قبل شهر تقريباً من الآن تلقى الوسط القضائى نبأ ترشيح المستشار محمد أمين المهدى، لتولى شؤون وزارة العدل، بمزيد من الفرحة والأمل واليقين والتساؤل، فرحة بأن يكون من يتولى أمر وزارة العدل قاضى الحقوق والحريات رمز العدالة البصيرة، وأما الأمل ففى أن تتحول وزارة العدل فى عهده إلى السعى نحو اتخاذ خطوات جادة على طريق تحسين المنظومة الإدارية للسلطة القضائية، وحل مشاكل صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية، وأما اليقين فبأن القضاء فى عهده سوف يحقق استقلاله الكامل عن السلطة التنفيذية.
وأما التساؤل فلأن من يعرف القاضى الجليل محمد أمين المهدى، الذى تولى وزارة العدالة الانتقالية يعلم أنه شديد العزوف عن قبول أى مناصب تنفيذية، فى وقت كان فيه منصب الوزير يتمتع بقدر كبير من المميزات والسلطات وطول البقاء على الكرسى، فما بالنا فى هذه الحكومة الانتقالية محدودة المدة، والإجابة عن هذا التساؤل هى أن القيادة السياسية علماً منها بتاريخ القاضى محمد أمين المهدى، رئيس مجلس الدولة الأسبق، عضو لجنة مصر فى تحكيم طابا، قاضى المحكمة الجنائية الدولية، رئيس لجنة اختيار قضاة محاكمة قتلة رفيق الحريرى، المحكم الدولى والمحاضر لدى الجامعات المصرية والعربية والدولية، وثقتها فى قدراته وخبراته وعدالته، ورغبة صادقة منها فى نقلة نوعية على طريق استقلال القضاء، طلبت منه الموافقة على تولى شؤون وزارة العدل، وامتثالاً منه واستجابة لنداء الواجب الوطنى وإحساسه بمسؤوليته تجاه بلده، وتحقيقاً لرغبة مترسخة داخله من سنوات عديدة قبل ترشيحه لتولى حقيبة العدل فى هذه الوزارة الانتقالية، بجعل استقلال القضاء كاملاً، إلا أن عدداً ممن لا يعرفون من هو محمد أمين المهدى، أبدوا اعتراضهم على توليه منصب وزير العدل، ليس اعتراضاً على شخصه بل بحجة أن تولى قاض من مجلس الدولة هذا المنصب مخالف للأعراف القضائية من وجهة نظرهم، وفى هذا السياق نؤكد على الحقائق التالية:
1- إن السوابق التاريخية تؤكد أن وزارة العدل تولاها ما قبل ذلك قضاة ينتمون إلى مجلس الدولة، بل إنه فى إحدى المرات تولاها من ينتمى إلى مهنة المحاماة.
2- إن وزارة العدل يتبعها عدد من المصالح والصناديق مثل مصلحة الخبراء ومصلحة الطب الشرعى وصندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لرجال القضاء وصندوق أبنية المحاكم.
وهذه المصالح والصناديق تخدم الهيئات والجهات الأربع، ويسهم أعضاء الهيئات القضائية الأربع بنفس القيمة فى اشتراكات صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية، ومن ثم فالوزارة لا ترعى شؤون القضاء العادى فقط.
3- إن منصب وزير العدل هو منصب تنفيذى وليس قضائيا، حتى وإن تعلق بشؤون العدالة.
ومن ثم فإن من الطبيعى أن يكون وزير العدل من بين المنتمين إلى الهيئات القضائية الأربع وليس حكراً على رجال القضاء العادى، ولا يعنى مجىء وزير العدل من رجال القضاء العادى فى أغلب الأحيان أن ذلك يشكل حقاً مكتسباً يغل يد المسؤولين عن اختيار وتشكيل الحكومة عن القيام باختيار وزير العدل من خارج رجال القضاء العادى، وحتى نضع الأمور فى نصابها الصحيح ونفسر هذا الوضع ونكمل الصورة نقول إن السلطة التنفيذية ظلت حريصة على ألا يحصل القضاة على استقلالهم الكامل وتظل السلطة القضائية تحت سيطرة السلطة التنفيذية بعض الشىء، وكانت وسائلها فى ذلك أن يكون التفتيش القضائى تابعا لوزير العدل أحد رجال السلطة التنفيذية، وأن يكون اختيار رؤساء المحاكم الابتدائية من قبل وزير العدل، وحتى يمرروا هذا العدوان على استقلال القضاء ويغلفوه بصيغة قضائية ويحسنوا وجهه عمدوا إلى اختيار وزير العدل من بين رجال القضاء العادى حتى يزرع قبولاً يوماً بعد يوم بين القضاة أن القضاء مستقل، بدليل أن من يتولى شؤون القضاء هو قاض سابق، ويتناسون أنه أصبح من رجال السلطة التنفيذية، ولكن حقيقة الأمر أنه يوجد لدينا قضاة مستقلون.
ولقد فطنت القيادة السياسية التى تنتمى إلى محراب القضاء، إلى أن الوقت قد حان لتحقيق استقلال القضاء كاملاً، وأن القاضى الجليل محمد أمين المهدى، بتاريخه وعلمه وقناعاته ورؤيته الثاقبة، هو الأقدر على إنجاز ذلك، وكان الأجدر بهؤلاء المعترضين أن يوجهوا جهدهم إلى استقلال القضاء بنقل تبعية التفتيش القضائى إلى مجلس القضاء الأعلى، وكذلك اختيار رؤساء المحاكم الابتدائية بما لهم من صلاحيات واسعة وأمور أخرى كثيرة كان سيحققها هذا القاضى الجليل.
معذرة قضاة مصر أن فقدت وزارة العدل هذا الرجل، وعذراً أستاذى الجليل لمن لم يعرف قدركم.