«لو لم نجده عليها لاخترعناه».. فى لمحة شعرية مكثفة أطلقها نزار قبانى فى قصيدته «ماذا أقول له» التى غنتها نجاة بلحن عبد الوهاب وكان يقصد الحب، والحقيقة أن الشعوب أيضا عندما تعيش فى لحظة ضبابية تبحث عن زعيم ولو لم تجده فعليها أن تخترعه.
تريد مصر زعيمًا تمنحه الأمانة ليصبح هو المخلّص من كل الآلام والمحقق لكل الآمال، قبل ثورة 25 يناير بعامين لاح فى الأفق اسم د.محمد البرادعى، وجدوا فيه بعض ومضات الزعيم، ولأول مرة شاهد الناس فى مطار القاهرة استقبالا جماهيريا لإنسان غير رئيس الجمهورية، وهتفوا «شد القلوع يا برادعى.. مافيش رجوع يا برادعى»، وعلى الفور بدأت أجهزة الدولة العميقة فى تشويه البرادعى واعتبروه هو العدو الأول وسلطوا حتى «شعبولا» ليطلق ضده عددًا من أغنياته، وبعد رحيل مبارك ظل هو العدو الأول وردّد شعبان «البرادعى شعللها»، ولم تتوقف الأجهزة عن تحطيمه أدبيا مستغلة أن الذاكرة الشعبية من كثرة الإلحاح الإعلامى صدقت عديدًا من تلك التهم، البرادعى كان يتألق أكثر فى العالم الافتراضى «تويتر» و«فيسبوك»، التغريدة هى وسيلته لهذا حقق وجودًا بين الشباب وصار يحمل لقب «البوب»، بينما فى اللقاءات الحية افتقر إلى تلك «الكاريزما» فلم تنجح مصر فى تنصيبه زعيما، وهو قد أعلن أكثر من مرة صادقا أنه لا يفكر فى الرئاسة، ولكن سيظل البرادعى فى ضمير قطاع وافر من المصريين، بخاصة الشباب أيقونة ثورة 25 يناير.
فى أثناء انتخابات رئاسة الجمهورية قبل أكثر من عام حاولوا مرة أخرى اختراع زعيم وتوجهت المشاعر إليه، أقصد حمدين صباحى، الذى كان فى أحيان كثيرة يسعى لكى يعيد للأذهان صورة عبد الناصر، نصير العمال والفلاحين والمهمشين، وبعد أن وصل سريعا إلى ذروة الشعبية فى أثناء الانتخابات محققا المركز الثالث وبفارق ضئيل عن مرسى وشفيق، بدأ يعانى سريعا حالة الخفوت الجماهيرى.
ثم جاء الفريق أول عبد الفتاح السيسى بكلمته التى تحولت إلى شعار: «مصر أم الدنيا.. وحتبقى قد الدنيا»، وتوافق فى الضمير الجمعى صورتَى السيسى وعبد الناصر، بخاصة بعد إنذار الـ48 ساعة واعتبروه البطل المنتظر، أعلن السيسى أكثر من مرة أنه لن يدخل انتخابات الرئاسة ولا عودة للجيش فى العمل بالسياسة، إلا أن الفضائيات امتلأت بالأغنيات التى تغزلت فيه باعتباره هو البطل الحلم، راجعوا شريط أغنية «تسلم الأيادى» وشاهدوا عدد اللقطات التى انفرد بها الفريق السيسى، تابعوا أيضا عددًا من المواليد الجدد بدلا من أن يطلق عليهم آباؤهم أسماء عصرية مثل هيثم ولؤى توجهوا إلى السجل المدنى باسمى «عبد الفتاح» و«السيسى»، حتى كحك العيد البعض نقش عليه حرفَى «سى سى». بعض من الإعلاميين والمثقفين الذين كانوا من منافقى مبارك اعتقدوا أن الفرصة جاءت إليهم ليعيدوا نفس الموال للفريق أول، ولا أستبعد عندما يقترب باب الترشح لرئاسة الجمهورية أن يتم تنظيم مظاهرات من عدد من النقابات والهيئات لمطالبته بالتقدم للانتخابات.
الناس التى عاشت حلم الثورة تعيش أيضًا محاولة إجهاضها، البعض نجح فى أن يصدر للرأى العام هذا الإحساس بأن مصر قبل 25 يناير أفضل وأن الثورة الحقيقية هى 30 يونيو كأنها ليست ثورة على حكم الإخوان ولكنها ثورة لإسقاط 25 يناير، وفى ظل هذه التناقضات لم يتوقف الجميع فى البحث عن الزعيم.
عشنا بعد 25 يناير ونحن نبحث عن الرئيس التوافقى الذى يستطيع أن يرضى أغلب طوائف المجتمع بين الليبراليين والإخوان ولكن ثبث أن التوافق حلم بعيد المنال، ووجدوا أن الحل هو فى اختراع زعيم، وماكينة الإعلام تلعب دورها فى تأكيد صورة ذهنية، الشارع فى حالة إحباط يحاول أن يُمسك بطوق النجاة، ونسينا فى الزحام أن قطار الحياة لا يعود لمحطة سابقة، انتهى زمن الزعيم الملهم الذى تمنحه الأمة تفويضًا مُطلَقًا على بياض، مثل الذى وقّعوه لسعد زغلول فى ثورة 19، وما كرروه بعدها فى 52 لعبد الناصر، استلهموا فى صورة عبد الفتاح السيسى بعضًا من عبق جمال، وفاتهم أن هذا هو المستحيل.. «وعايزنا نرجع زى زمان؟ قول للزمان ارجع يا زمان»!