سأتذرع اليوم أيضا بالعيد وأواصل التجوال فى بستان الإبداع، وسأترك هذه السطور حالا لساحر القصة القصيرة، «تشيكوف» العرب، يوسف إدريس.. هذا المبدع الفذ الذى كان أعظم من رسم بالكلمات أجمل وأصدق وأعمق صور البشر البسطاء والفقراء والمهمشين، هؤلاء الذين انحاز لهم وأحبهم وغاص فى عوالمهم الرثة البائسة، ناقلا إلى الورق بكثافة وبراعة يعجز عنهما الوصف، أذكى المشاعر وأقوى المعانى الإنسانية وأكثرها قدرة على الخلود والبقاء ما بقيت فى دنيانا ضمائر حية وقلوب لا تتحجر وأرواح تهفو إلى الروعة والجمال.
عزيزى القارئ الكريم، تعالَ نقرأ ونستمتع معا بواحدة من تحف العم يوسف المفرطة فى البساطة والرهافة، فضلا عن عبقرية الإيجاز.. ولكن بعد أن تصل إلى الختام حاول أن لا تجعلك هذه التحفة تكتئب وتتذكر تلك الصورة المحزنة التى تغصّ بأطفال فقراء صغار لملمتهم «جماعة الإجرام والشر» وانتهكت براءتهم بوحشية وسيّرتهم فى الشوارع وقد ألبستهم أكفان الموت.
«نظرة»
«كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلى لا تعرفه، فى بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا، ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوى حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق، رغم قبضتها الدقيقة التى استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتى وأنا أحدق فى الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوى الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هى.. ولكننى نجحت أخيرا فى تثبيت الحمل، وزيادة فى الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدرى ما دار فى رأسها، فما كنت أرى لها رأسا وقد حجبه الحمل.. كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهى تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذنى منه إلا كلمة «ستى»...
ولم أحول عينى عنها وهى تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها الواسع المهلهل الذى يشبه قطعة القماش التى ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
وراقبتها فى عجب وهى تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت فى الأرض، وتهتز وهى تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السواد فى وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشىء ولكنها سرعان ما تستأنف المضى.
راقبتها طويلا حتى امتصتنى كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع فى كل ثانية أن تحدث الكارثة. وأخيرا استطاعت الخادمة الصغيرة أن تخترق الشارع المزدحم فى بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفى شاهدتها تتوقف ولا تتحرك.
وكادت عربة تدهمنى وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شىء على ما يرام والحوض والصينية فى أتم اعتدال، أما هى فكانت واقفة فى ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال فى مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون.
ولم تلمحنى، ولم تتوقف كثيرا فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضى بها، وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة.
ثم ابتلعتها الحارة».