قضايانا الأساسية فى هذه المنطقة السعيدة من العالم تحتاج إلى جهد فكرى مضاعف، وإلى عقول تملأ فراغات لم يحسمها الفكر السياسى الحديث بصيغته الغربية. لكننا، للأسف، تعودنا على انتظار المنتج الغربى. إن غاب اليهود غاب جوهر خطاب معاداة السامية، وغاب جوهر انتقاد النازية، وإن غاب السود، غاب جوهر قضية الفصل العنصرى، وبالتالى فشلنا فى تقديم خطاب نظرى متماسك، وواثق من نفسه، يشرح للعالم، وللغرب بوضع خاص، الوضع عندنا. لماذا؟
أولا بسبب الجبن الفكرى. إذ يخشى كثير من مفكرينا مواجهة اتهامات التكفير. ويداهنون منتهكى الحقوق من الإسلامجية، وذلك بالترويج لأسطورة أن الشريعة الإسلامية سبقت العالم فى إقرار المساواة الإنسانية، بينما هى فى الحقيقة لم تفعل ذلك أبدا طبقا للمقاييس الحالية للمساواة الإنسانية. نتفهم وجهة نظر من يقول إنها كانت «تقدمية» لمجتمعها. وأول من يعرف أن الشريعة الإسلامية لا تقر المساواة حسب المفهوم المعاصر هم الإسلامجية أنفسهم، مروجو الفكرة أنفسهم، فهم أحرص الناس على نفى أى مساواة بين مسلم ذكر سنى، وغيره. وهم يحتجون فى دعمهم لهذا التمايز بنصوص من الشريعة الإسلامية، وأحكام فقهية من الشريعة الإسلامية، وممارسات من الشريعة الإسلامية، نراها كلنا رأى العيان فى الدول «الإسلامية»، لكننا نعود ونضحك على أنفسنا. ونعود لنتراخى فى التعامل مع مواد دستورية تقول إن هذه الشريعة، وليس حتى مبادؤها ولا مقاصدها، المصدر الأساسى للتشريع. وهو ما يضفى على التشريع نفسه -ذلك الذى أشرت إلى تشابهه مع النازية ومع التفرقة العنصرية وإن لم يماثلها- قدسية من الانتقادات. وبالتالى فإننا فى خطابنا إلى العالم لا نستطيع أن نفهمه لماذا لا يختلف الإخوان فى خطرهم عن غيرهم من الجماعات الفاشية الأوروبية. لماذا لا تختلف دعاية الإخوان لقاعدتها الجماهيرية عن الدعاية الفاشية والنازية. إن أردنا أن نوصل هذه الرسالة سنحتاج إلى اشتباك مع النصوص وتفسيراتها المتحجرة منذ القرن الثالث الهجرى.
وثانيا بسبب زهد المفكرين المعاصرين فى فضيلة الإبداع، وتمجيدهم لقيم الالتزام الفكرى، مما يجعل استعادة النصوص وتكرارها أهم من الاشتباك معها وتطويرها. يعتقد هؤلاء أن الإبداع «بتاع الفنانين»، أما المفكرون فلهم البحث الملتزم، والنقل من المصادر. يا سادة، لو نظرتم إلى المميز من المفكرين فى العالم كله فسوف ترون أن ما ميزهم كان الإبداع، كان الخروج على السائد والشائع، ليس من أجل الخروج فى حد ذاته، إنما من أجل تفنيد هذا الشائع وتبيان أوجه القصور فيه، وبالتالى الانطلاق إلى صورة أكثر تناسبا مع عصرنا وقيمنا الجديدة. جون جاك روسو وبرتراند راسل ونيتشه وميشيل فوكو، على اختلاف توجهاتهم، جمع بينهم قدرتهم على الإبداع الفكرى، قدرتهم على لفت نظر «المثقفين» إلى ما خفى عنهم. بفضل هؤلاء اكتشف الناس «الإنسان الطبيعى»، و«ديكتاتورية الأغلبية»، وحقوق الفرد الأساسية التى ليس من حق الأغلبية انتزاعها ولو بقانون، وفساد الأخلاق المتعارف عليها، والضبط الاجتماعى القاتل للإبداع فى المجتمعات الحديثة. كلها كانت أفكارا أصيلة لم يسبقهم إليها أحد، ولم تشبه ما كان موجودا فى السوق الثقافى من أفكار، ولا فى الكتب من نصوص.
فى حالتنا الحاضرة، مهما انتظر مفكرونا لن يأتيهم المدد. لماذا؟ لأن مجتمعنا لم يتطور على نفس الخط مع المجتمعات التى ترسل المدد. بل نحن متأخرون عنها اجتماعيا بقرون. أى أن مشكلاتنا الحالية شبيهة بمشكلات زمان القرون الوسطى، وسلوكنا معها يشبه سلوك مجتمعات القرون الوسطى. حين كانت الانتهاكات عرفا، تمر دون ملاحظة، ولا انتقاد، ولا اعتراض. وأيضا، أيضا، يحميها الدين، ورجال الدين، ومؤسسات المنتفعين من الدين، وجمهور يريد شراء الآخرة مقابل حياة الآخرين. وعلى ذلك، مهما بحثتم فى كتب الديمقراطية -وهى تنتمى إلى زمن أحدث من زمننا- لن تجدوا ما يداوى حالتنا. المرض الذى لدينا مرض لم يمر على أطباء الغرب المعاصرين. ولا بد أن تشغلوا أذهانكم وأن «تستغلوا الفرصة» لإضافة وجهة نظر أخرى، من موقع آخر، إلى الفكر الإنسانى. إن خلطنا قبولنا بالديمقراطية مع استسلامنا للتمييز الإسلامجى، فلن نجنى إلا استعبادنا. الديمقراطية والتمييز والتسلط باسم الدين لا يمتزجان. انظروا من فضلكم لهذا الخطاب. بدلا من الترداد الببغائى لكلمات منتقاة من التنظير الغربى.
نحن نخوض معركة «تنوير» خاصة بنا.