يبدو أن المسؤولين عن البلاد لم يدركوا منذ 3 يوليو وحتى الآن أن الأفق ممتد أمامهم باتساع العالم بما يتيح لهم حرية الحركة والقدرة على المناورة، وأن الفرصة لا تزال سانحة، ولكنهم استسلموا واستكانوا فى المزنق الضيق الذى انحصرت فيه مصر عبر عقود من حكم مبارك ثم من حكم جماعة الإخوان. وبرغم الأيادى التى بادرت بالامتداد، مثلما فعلت روسيا والصين، إلا أن المراقبين لم يرصدوا استجابة توحى باهتمام المسؤولين الذين كان يُنتظر منهم أن يجيدوا انتهاز أية إشارة واعدة بالمساعدة فى تدعيم الثورة، ولكن أعينهم لا تزال شاخصة نحو أوروبا وأمريكا.
للأسف، فإن البادى على السطح حتى الآن أن المسؤولين يتصرفون وكأن شيئا آخر مُهِمّا ينقصهم حتى يتمكنوا من الانطلاق إلى الأمام، وكأن التفويض الذى منحه الشعب بعشرات الملايين امتلأت بهم ميادين وشوارع مصر غير كافٍ!
فهل هذا هو ما دعا الفريق السيسى إلى أن يطلب من الأمريكيين ومن دول خليجية أن يتدخلوا لدى الإخوان لإقناعهم بمطالب الانتفاضة؟ وهل هذا هو ما تسبب فى الإحباط من تصريحات ماكين وجراهام بأن ما حدث هو انقلاب عسكرى وأن لا شرعية لمن يحكمون؟ وهل هذا وراء العصبية فى إعلان أن باب الدبلوماسية انتهى!
فهل هو إعلان حرب؟ أم ماذا؟
كيف لجماعة فشلت فى حكم البلاد وأثبتت أن قياداتها يفتقدون المهارات السياسية الأساسية أن تضع ممثلى الثورة فى الرُكن، برغم الحق الذى تقف الثورة فى صفه؟
وكيف يتورط ممثلو الثورة فى الفخ الذى نصبه لهم الإخوان وجعلهوهم يعلنون صراحة عن رفض الاعتصام ويطالبون بفضه، وهو الحق الذى جاهد المصريون عبر عقود لإقراره؟ وكيف يحظى الإخوان بصورة الضحية فى سبيل حقوق الإنسان؟
لم يكن المطلب الشعبى هو فض الاعتصام لا بالقوة ولا سلميا، وإنما كان المطلوب حماية الجماهير من العنف ومن خطر استخدام السلاح، وكان ينبغى أن تعلن الدولة هذا بوضوح وألا تحيد السياسة المعلنة عنه، وكن يجب الانتباه إلى التفريق بين حق التظاهر والاعتصام الذى لا يجوز المجادلة فيه، والذى هو أحد منجزات الثورة، وبين الرفض البات لاستخدام العنف أو التلويح باستخدامه أو التحريض على استخدامه، وكان ينبغى أن تتحرك الأجهزة المعنية لضبط وإحضار كل من تطلبهم النيابة، وإذا كانت تعقيدات فنية ولوجيستية تعرقل إمكانية تنفيذ هذا فورا فى اعتصام رابعة حيث الحشد الكبير، فما كان لأجهزة الأمن أن تتقاعس فى التصدى بالقوة لعربات حملت السلاح وتمكنت من الوصول إلى حصن رابعة العدوية، وفق بلاغ تقدم به شباب إخوان ضد العنف، وكيف للأمن أن يتهاون إزاء الإغارات الليلية التى تقوم بها ميليشيات الإخوان فى الجوار على السكان والمتاجر وعلى محطات المترو وحول المؤسسات السيادية، وقطع الطريق، ووصلت مؤخرا إلى الكنائس وبيوت المسيحيين، وهو ما كان يجب أن تتصدى له الدولة دون رفق بل وأن تردعه وهو فى سبيله وقبل أن يقترف جريمته، وأن يجرى هذا دون خوف ولا ارتعاش من ردود الفعل المتوقعة لمن يكتفى بالرصد من المزنق الذى وضع مبارك مصر فيه حيث ينحصر الأفق فى أوربا وأمريكا!
لنعترف الآن أن الثورة باتت فى مأزق صعب، بسبب العقلية البيروقراطية التى أُنيط بها تولى المرحلة الانتقالية، وأهم أخطائها التباطؤ وعدم تقدير عامل التوقيت وتوهم أنه ينبغى لها أن تحظى بالإجماع لكى تنجز مهامها، وهو ما وضعها فى حرج شديد عندما تحركت مجموعة صغيرة منظمة فتمكنت من عرقلة مسار ثورة يؤيدها الشعب بأغلبية ساحقة.
لا يريد الإخوان أن يعلنوا تسليمهم بحقيقة ساطعة وهى أن الجيش أنقذهم بتدخله فى 3 يوليو من غضبة الشعب العارمة التى جعلتهم يختبئون فى منازلهم من هول ما رأوا بدءا من 30 يونيو، ولم يكن أمام هذه الجماهير الغاضبة إلا أن يقتحموا مقار الجماعة وحزبها وقصور الرئاسة، وللإخوان أن يتخيلوا ما كان سيقع لهم يومها لو لم يتدخل الجيش.
بل هم على العكس يجهدون أنفسهم فى جحد الحقائق ويصرّون على أن أعداد المتظاهرين ضدهم لم تزد عن الآلاف، ويقول بعضهم إنهم كانوا عشرات الآلاف ويتواضع آخر ويقول إنهم مئات الآلاف، وأى رقم من هؤلاء كان كفيلا بإلحاق أضرار بالغة بالإخوان تمتد لعقود على الأقل. وقد أنقذهم تدخل الجيش من المأساة.
لن نخرج من هذه الدوّامة إلا باستفتاء شعبى تحت رقابة داخلية وخارجية على خارطة طريق تحسم أمر عزل مرسى ووضع دستور جديد، وتكلف الأجهزة الأمنية باستخدام كل السبل لمواجة العنف ومَن يحملون السلاح..إلخ إلخ. ثم على الجميع أن يخضعوا لنتيجة الاستفتاء التى تصبح ملزمة حتى لمن يرفض المشاركة فيه الذين سوف يفقدون عندها حجتهم الواهية بالشرعية الإجرائية التى نالوها يوما ما فى غفلة من الزمان!