يوم فَتْح مَكَّة كَانَ يومًا عَظِيمًا مشرقًا فِى تاريخ الإِسْلاَم، كتائب المُسْلِمِين تدخل وتفتح هَذَا البلد الحرام، وأُخلِيَت الْكَعْبة من الأصنام.. مشهد جلل. لاَ يُوجَد أقوى من هَذَا أو أعزّ مِنْهُ أو أكثر نصرةً لرَسُول الله والإِسْلاَم، ورغم أنه يوم السماحة المطلقة فِى تاريخ الإِسْلاَم.. اليوم الَّذِى قرَّر فِيهِ النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أن يعفو عن كفار ومشركى مَكَّة الَّذِينَ آذوه وحاربوه، رغم هَذَا الجو الجلل من السماحة، فإن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدر أمرًا يخالف القاعدة المليئة بالرحمة والشفقة والسماحة الَّتِى أعطت درس السماحة الكبرى، وَهِىَ «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، إذ قَالَ الرَّسُّول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمشركين وقد انتصر الإِسْلاَم ورفعت رايته عالية «اذهبوا فأنتم الطلقاء» إلا ثلاثة، وأمر جماعة من المُسْلِمِين بقتل ثلاثة من الكفار بالاسم، ولو وُجدوا تحت أَسْتَار الْكَعْبة. هل هُنَاك أكثر من ذَلِكَ حرمة وحرامًا؟ هَذَا القرار الاستثنائى النَبَوِىّ مؤداه أن هؤلاء الثلاثة على درجة من العنف والعمق فِى الكفر والشرك إِلَى حد أن النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يأمر بقتلهم فِى اللحظة المثالية العظمى، لحظة الانتصار الكَبِير.. ولحظة الرحمة الكبرى الَّتِى شملت الجميع، إلا هؤلاء الثلاثة، وهم ابن خطل، وابن صبابة، وعَبْد اللهِ بْن سَعْدِ بْنِ أبى سرح.
فمَن عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ الَّذِى اعتبره النَّبِىّ ثالث ثلاثة لاَ بد أن يُقتلوا يوم فَتْح مَكَّة؟ كَانَ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ كاتبًا للوحى وارتدّ عن الإِسْلاَم وادّعى أنه كَانَ يكتب الْوَحْى بما يوحِى إليه بِهِ عقلُه، أى أنه كَانَ يكتب من دماغه وعلى مزاجه، وأن هَذَا لَيْسَ كلاما إلهيا ربانيا أنزله الله من السماوات العُلَى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. طبعًا كَانَت هَذِهِ الردة والخروج عن الإِسْلاَم أمرًا جللاً وضرب بقوة شديدة فِى قدسية ووحى القرآن الكَرِيم، ومن ثم يتضح الخطر الجلل الَّذِى يمثله هَذَا الرَّجُل المرتد ولا بد من قتله. أخذت جماعة من المُسْلِمِين المكلفين بهَذِهِ المهمة فِى البحث عن عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ فِى كل مكان، وفى هَذِهِ اللحظة شعر عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ أنه لن يُفلِت من قبضة هؤلاء الرجال مهما كَانَ، وأن النَّبِىّ قد انتصر، والإِسْلاَم قد ارتفع، والمُسْلِمِين وقد فتحوا مَكَّة، فلا مفرَّ أو مهرب أمامه، وأنه حتمًا مقتول. فمَاذَا يفعل؟ لجأ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ إِلَى عُثْمَان رَضِىَ اللهُ عَنْهُ. لمَاذَا عُثْمَان؟ لأَنَّهُ أخوه فِى الرضاعة وبينهما هَذِهِ المودَّة والرحمة والقُربَى، والصلة الَّتِى كَانَ عُثْمَان بْن عَفَّانَ منطلقًا منها، ومن فكرة أنه شيخ عَرَبِىّ كَبِير جليل يلجأ إليه شخص ويستجير بِهِ مما حدث: «أغثنى يا عُثْمَان»، طبعًا عُثْمَان بْن عَفَّانَ فعل الفعلة الَّتِى لم يكُن لأحد أن يفعلها سواه، فهو يعرف جيدًا مكانته عند النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، ويعرف جيدًا قدرته فِى طلب العفو عنده، فأخفى عُثْمَان بْن عَفَّانَ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ عنده، أو -كما نقول الآن- تَستَّر على مجرم وأخفاه تمامًا عن الجماعة الَّتِى كَانَت تطلبه، ثم أخذه من يده فِى مشهد تاريخى، تشعر بِهِ عِنْدَمَا تقرؤه فِى كتب السيرة والتراجم والتَّارِيخ.
ومشى بِهِ فِى الممرات والطرق حَتَّى وصل إِلَى الزعيم المنتصر، والإمام العَظِيم، والنَّبِىّ الكَرِيم الجالس فِى لحظة انتصاره وسط صَحَابَته من الأنصار والمهاجرين. دخل على الرَّسُّول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ شخص مطلوب قتلُه وسفكُ دمه، ولو كَانَ عند أَسْتَار الْكَعْبة. دخل عَلَيْهِ سيدنا عُثْمَان بْن عَفَّانَ وقال إنه يطلب العفو عن هَذَا الشَّخْص الَّذِى تاب وأناب ولن يفعلها مرة أخرى، فصَمَتَ النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ طويلاً، وَهُوَ التَّعْبِير الَّذِى اعتمدَته كتب التَّارِيخ والتُّرَاث والمراجع الدينية كافَّةً الَّتِى رجعنا إليها فِى هَذَا المشهد. صَمَتَ الرَّسُّول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ دقائقَ طويلةً، والكلُّ فِى حالة توتُّر ودهشة وترقُّب لما سيفعله النَّبِىّ، وما سيَقُوله، وهل سيقبل وساطة عُثْمَان أم لاَ... ثم قَالَ الرَّسُّول: «نعم»، فلما انصرف عُثْمَان بْن عَفَّانَ وبصحبته عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ قَالَ النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِمَن حوله: «ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضُكم فيقتله». كَانَ الأمر النَبَوِىّ بقتل عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ ولو عند أَسْتَار الْكَعْبة، ومِنْ ثَمَّ وإن كانَ جَالِسًا أَمامَ النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. دُهِشَ الصَحَابَة وتوتَّرُوا وقَلِقُوا حَتَّى إن رجلاً من الأنصار قَالَ لَهُ: هلاَّ أومأتَ لِى يَا رَسُولَ الله؟ فردَّ النَّبِىّ العَظِيم: «إن النَّبِىّ لاَ يَنْبَغِى أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَة الأَعْيُن». أَىْ لاَ يُوجَد غَمْز ولَمْز. الْكَلِمَة كَلِمَة، والمَوْقِف مَوْقِف، دون لفّ أو دوران. ونجا عَبْد اللهِ بْن سَعْد. هَذَا الرَّجُل الَّذِى نَجَا مِنَ القَتْل وارتدَّ قبل ذَلِكَ عن الإِسْلاَم وادَّعَى أنَّه يكتُبُ الْوَحْى بِنَفْسِهِ.