فى 5 إبريل 2011 نشرت هذا المقال فى «المصرى اليوم» ويومها هاتفنى الدكتور عصام العريان وقال لى إن المرشد غاضب مما ورد فيه، وقلت له: أنا أكتب ما يمليه على ضميرى، ولا يشغلنى غضب أحد أو رضاه، وأدعوكم بدلا من الغضب أن تتعظوا، وتأخذوا ما فى المقال على محمل الجد، فقال لى: المقال يغلب عليه التشاؤم ولا أعتقد أن نبوءته ستتحقق، ولن يبقى منه سوى التجنى علينا. فابتسمت وقلت له: لا تتعجل الأيام بيننا. وإليكم المقال كما نشر قبل سنتين وأربعة أشهر وأربعة أيام:
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».. هكذا يردد أتباع جماعة الإخوان صباح مساء، لكنهم لا يتعلمون الدرس أبدا. مغرمون هم بأسطورة سيزيف الإغريقية، يحملون الحجر على صدورهم ويصعدون الجبل، خطوة خطوة فى معاناة شديدة، وما إن يصلوا إلى القمة الشاهقة حتى يسقط منهم فيلقوا أنفسهم وراءه ويحملوه من جديد. هكذا فى دأب لا ينتهى، وصبر ليس من ورائه طائل، سوى أن يسلم اليافعون إلى القبور، والحالمون إلى الكوابيس المفزعة.
يُحكى أن فؤاد باشا سراج الدين وصف الإخوان بأنهم مثل الذى يمتلك عربة «فيات» أكل الدهر عليها وشرب، يسير بها الهوينا فى الشارع، وقبل أن يبلغ مقصده تتعطل فيعود بها إلى «الميكانيكى» فيصلحها له، ثم يركبها من جديد، وينطلق إلى ما يريد، وقبل أن يصل إلى المكان ذاته الذى كان يسعى إليه فى مطلع الرحلة تتعطل، فيعود بها إلى الميكانيكى، وهكذا فى ذهاب وإياب لا ينقضى، ولا يراكم إلا الأوقات الضائعة، والتجارب التى تذهب سدى.
بل يبدو التشبيه الأبلغ لجماعة الإخوان المسلمين أنهم مثل «جواد السلطان» الذى يركبه متبخترا فوق ظهره الذى استطال وانداح مستوياً من سنوات الكد والكدح والعذاب المقيم، حتى يبلغ مقصده ومأمنه، ثم ينزل ويربطه فى وتد يخترق الأرض إلى جوفها، فيظل واقفا تأكل الشمس جسمه، من غير طعام ولا شراب، فيضمر وينحل، منتظرا السلطان الجديد، ليحرره قليلا ويعطيه بعض مأكل ومشرب حتى يمتطيه إلى غاياته، وهناك ينتظره وتد أطول وأغلظ، وقد يضيق به ذرعا فيطلق عليه الرصاص.
المشهد الأخير للإخوان يشبه ما مر به المسلمون الأوائل فى يوم أحد، حين ظن المتعجلون منهم أن النصر المبين قد تحقق فهرعوا إلى الغنائم، فانكشف ظهر جيشهم أمام سهام ونبال المشركين، فأمطروهم بوابل منها حتى هزموهم. هكذا فعل الإخوان بثورة 25 يناير، راقبوها من بعيد فى أيامها الأولى، بعد أن أعلنوا على لسان عصام العريان أنهم لن يشاركوا فيها لأن أحدا لم يدعهم إليها، فلما تيقنوا من قوة دفعها خاضوا غمارها وساهموا فيها وأمدوها بما لديهم من رجال وقدرة تنظيمية ودافعوا عنها يوم الأربعاء الدامى. وحين أدركوا أن النظام سيفتك بهم إن فشلت الثورة ضربوا أوتادهم فى ميدان التحرير حتى رحل مبارك. بعدها عادوا إلى ممارسة لعبتهم القديمة، التى تقوم على معادلات ثبت فشلها، لكنهم لا يفقهون غيرها، من قبيل: «الفصيل أولا ومصر ثانيا» أو «السلطة قبل الشعب»، مستندين فى هذا إلى أمرين: الأول أن كتاباتهم منذ الإمام حسن البنا وحتى الدكتور بديع تخلوا من مصطلح «ثورة»، لأنهم يؤمنون بالإصلاح المتدرج والصبر الذى يؤدى إلى التمكن. والثانى أنهم كانوا لا يعولون أبدا على الشعب المصرى. كلما كنت أفتح بابا للنقاش مع رموزهم حول «ضرورة الغضب» كانوا يقولون «إن خرجنا فلن يستجيب الشعب وستفتك بنا السلطة والناس يكتفون بالفُرجة علينا».
اليوم، يعيش الإخوان فى صدمة، شأنهم شأن رجال مبارك، لا يصدقون أن الشعب قام، بعد أن ظنوا أنه مات. وإذا كان نظام مبارك يترنح، فالإخوان الذين استمرأوا العذاب فى عهده وامتلكتهم «مازوخية سياسية» لا يستطيعون منها فكاكا.
لقد نسى الإخوان أن سيد قطب كان سيصبح وزيرا للتربية فى حكومة عبدالناصر، وأن بعض ما كان الأخير يقرؤه فى المؤتمرات كان يكتب ببيت الأول فى حلوان، لكنهم ما إن ساعدوا الضباط حتى استقرت لهم الأحوال، ولان لهم المجتمع، وتراخت الأحزاب السياسية فى قبضتهم حتى انتفض ناصر ففتك بهم، ورماهم فى غياهب السجون. اليوم يقعون فى الفخ نفسه، غير مستفيدين من معطيات التاريخ، ولا حتى من تعاليم الإسلام.
و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». ولهذا ومن منطلق توحيد الجهود لا تشتيتها أقول للإخوان من دون مواربة: عودوا إلى صفوف الناس، فهم الأبقى والأنفع، وتعلموا من عثراتكم، ولا تتحملوا وزر إفشال ثورتنا العظيمة، فهذا ذنب ستسألون عنه أمام الله والتاريخ، وقد تدفعون ثمنه غاليا، حين لا يرضى شبابكم الواعى بهذا المسلك فيتمردون عليكم، أو يخرجون من تحت عباءتكم، وهو ما بدأت تباشيره الآن.
يا جماعة الإخوان.. لقد صنع الشعب المصرى العظيم فرصة للجميع، ساهمتم أنتم فيها بعد ثلاثة أيام من ولادتها، فكيف تقتلون ثمرة كفاح شعب بأيديكم، بحثا عن مغنم قليل أو قصير العمر، لن يلبث أن يتحول إلى مغرم، وستعضون أصابع الندم حين تجلسون من جديد تروضون الوقت فى عتمة السجن؟!