كان الزعيم الراحل فؤاد سراج الدين يلخص نظريته حول ضعف العقل السياسى لجماعة «الإخوان» منذ تأسيسها عبر تشبيهها بمن لديه سيارة لا يحسن قيادتها فيرتطم بها فى الحائط، ثم يقوم بإصلاحها، ولكنه ما إن يقودها مرة أخرى حتى يكرر ما فعله من قبل.
وأذكر أنه قال ذلك ذات يوم فى حضور مرشد جماعة «الإخوان» الأسبق عمر التلمسانى فى جلسة عُقدت للإعداد لانتخابات مجلس الشعب التى ضم فيها حزب الوفد عددا من مرشحى هذه الجماعة إلى قوائمه الانتخابية عام 1984.
ولفت انتباهى يومها أن التلمسانى ابتسم ولجأ بلباقة إلى تغيير موضوع الحديث. والأرجح أنه تعمد ذلك لكى يتجنب الحرج. فما كان له أن يعترض على ما قاله سراج الدين، وهو الذى كان يدرك صحته ولكنه لا يملك إقراره أو التصريح به علانية.
وكانت العلاقة بين الرجلين تتيح للتلمسانى إدراك مقصد سراج الدين، وهو النصح والتنبيه إلى أهمية استيعاب «الإخوان» دروس تجاربهم المُرة التى ترتبت على تكرار اصطدامهم بالسلطة.
لم يكن التلمسانى شخصيا فى حاجة إلى ذلك النصح، وهو الذى سعى بالفعل إلى تصحيح مسار الجماعة. ولكنه لم يستطع إنهاء نفوذ التحالف الوثيق بين الفريقين الأكثر انغلاقاً فيها، وهما بقايا النظام الخاص أو التنظيم السرى المسلح، وبقايا تنظيم الستينيات الذى أعاد سيد قطب تشكيله.
ورغم أن التلمسانى تمكن من إرساء منهج التسلل الناعم إلى المجتمع والانسياب اللطيف فى أوساط فئاته الأقل تعليماً والأكثر فقراً، إلى جانب بعض قطاعات المهنيين اعتماداً على جيل السبعينيات الذى التحق بالجماعة وأعطاها وجها معتدلا، فلم يؤد العمل بهذا المنهج إلا إلى تأجيل إعادة إثبات نظرية سراج الدين.
غير أنه حين تأكدت صحتها هذه المرة، لم يكن الارتطام بالحكم بل بالشعب، ومن موقع قمة السلطة هذه المرة التى تختلف كثيرا عن المرات الثلاث السابقة. فقد كان سهلا فى كل مرة سابقة إصلاح ما لحق بالسيارة من خسائر وإعادة استخدامها. وكان هناك من يساعدون فى ذلك لأن الجماعة لم تصطدم بالشعب من قبل، فنجحت فى استثمار ملاحقة السلطة لها للحصول على شعبية فى أوساط لا يُستهان بها من المجتمع.
ويبدو أن قيادة الجماعة تعتقد فى إمكان تكرار ذلك رغم الاختلاف الجذرى فى هذه المرة. فهى لم تصطدم بسلطة، بل بالشعب لأنها كانت هى نفسها السلطة. ولكن قيادتها تظن أن الاصطدام بالإدارة الانتقالية يتيح لها استعادة صورة الجماعة المقهورة وإعادة إنتاج أسطوانة «المظلومية» أو«المحنة» لتوسل دعم دولى هذه المرة والسعى إلى تغيير موقف بعض قطاعات المجتمع تجاهها من الغضب إلى التعاطف.
ولكن هذا السيناريو قد ينتهى وفق المعطيات الحالية بتحول «الإخوان» إلى جماعة إرهابية معزولة بعد أن تفقد قدرتها على إيجاد ظهير شعبى مرة أخرى. وهذا هو السيناريو المتوقع اذا أصرت قيادتها على مواصلة المنهج الذى تتبعه منذ 5 يوليو الماضى، ويلخصه إعلان أحد رؤسائها أمام العالم كله أن الأعمال المسلحة فى سيناء (أى الإرهاب) ستتوقف بعد ثانية واحدة من إعادة مرسى إلى الكرسى.
غير أنه يظل هناك سيناريو ثان لم تظهر مقدمات كافية تدل عليه، ولكنه ليس مستبعدا، وهو أن يدرك بعض قادة الصف الثانى وربما نفر قليل من الصف الأول أن الطريقة التى تم اتباعها بعد صدامات 47-1948 و1954 و1965-1966 هى التى تتيح الحصول على فرصة أخرى عبر التراجع التكتيكى خطوة توطئة للتقدم خطوات فى مرحلة تالية. ويبدو هذا السيناريو صعبا الآن بسبب سطوة القيادة المنغلقة التى تهيمن على الجماعة وسيطرتها الكاملة على صنع القرار فى الوقت الراهن. ولكنه قد يكون بديلا لفشل السيناريو الحالى الذى يبدو أن هذه القيادة تراهن عبره على أن يؤدى الصدام مع الإدارة الانتقالية إلى وضع حد للتناقض مع الشعب.
غير أن فشل سيناريو الرهان على الصدام قد لا يترك مجالا لسيناريو التراجع التكتيكى الذى تتوقف فرصته على الإسراع به وتبنيه من جانب فريق فى الجماعة يعلن انشقاقه ويستطيع جذب قطاع أساسى من أعضائها. فإما أن يكون السيناريو الثانى بديلا فوريا وليس احتياطياً، أو أن يكون السيناريو الراهن هو الأخير فى مسلسل اصطدام عربة «الإخوان» المتكرر بكل حائط تجده أمامها.