حين يعتبر رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى الكونجرس الأمريكى أن ما جرى فى مصر مجرد انقلاب، وينبرى فى الدفاع عن الإخوان المسلمين، ونكتشف أنه سبق أن أعلن لصحيفة «دير شبيجل» الألمانية فى 2 يونيو 2011 أنه يجب استبعاد الإخوان المسلمين من أى حكومة انتقالية فى مصر، وأن دخولهم فيها يعتبر خطأ تاريخيا، يصبح تحول خطابه، أمس الأول، صادما ومستفزا.
ما تقوم به أمريكا دفاعا عن حليفتها الأولى، متمثلة فى جماعة الإخوان المسلمين، وحجم الضغوط التى تمارس على الدولة والحكومة المصرية فاق كل القواعد الدولية، وبدا كأنه محاولة خبيثة لاستغلال حالة الوهن التى أصابت الدولة والاختراقات الكثيرة التى أصابت المجتمع والنخبة بعد 30 عاما من التجريف السياسى وعام من حكم الجماعة.
وضع الحكومة صعب وليس سهلا كما يتصور البعض، وحرص البرادعى على عدم إراقة الدماء المصرية ليس بسبب ضعف أو تخاذل، إنما هو ضرورة وطنية حتى يتم استنفاد كل الوسائل الممكنة لفض الاعتصام سلميا قبل أن تضطر الدولة لفضه بالقوة، وفق القانون والدستور.
مصر لا تحتاج فقط إلى فض اعتصامى رابعة والنهضة المخالفين لقواعد أى اعتصام سلمى فى العالم، إنما إلى استنهاض كامل للوطنية المصرية فى مواجهة عقل الجماعة السرية فى الداخل (وليس الأحزاب الإسلامية القانونية) والتدخل الأمريكى فى الخارج.
مصر بها حكومة تضم كثيرا من الكفاءات، وربما بعضهم هم الأكفاء فى مجالهم، وتحميل أطراف داخلها مسؤولية 30 عاما من التجريف والانهيار أمر لا معنى له ويصب فى صالح العودة لما هو أسوأ من نظام مبارك، فاتهام الرئاسة والحكومة المؤقتة بالتخاذل والبطء أو الانبطاح (بتعبير إبراهيم عيسي) أمر يمكن قبوله فى إطار النقد السياسى حتى لو لم نتفق معه، أما اتهامها بالتواطؤ مع أمريكا وترديد نفس اتهامات نظام مبارك فهذا أمر خارج أى عقل، وفيه من سوء النية الكثير، ويصب فى صالح جماعة الإخوان المسلمين دون أدنى شك.
مصر تحتاج بالتأكيد لحكومة كفء، فهذا جانب من الحل، أما الجانب الأكبر فهو يتعلق باستدعاء كامل وجديد للوطنية المصرية فى مواجهة ما يحيط بمصر من أخطار، فالقضية ليست فنية تتعلق بحكومة كفء ولا بممارسة سياسية أفضل بدلا من «جوع السلطة» الذى مارسته بعض الأطراف المدنية بصورة ذكرتنا بممارسات الإخوان، وحرصها على تحويل انتفاضة الشعب المصرى فى 30 يونيو إلى ملكية خاصة وإلى «سبوبة» وجرى وراء كراسى فى مرحلة انتقالية يفترض أن تكون أبعد ما تكون عن المكاسب الحزبية الضيقة، لأن كل من فيها لم يأت بانتخابات ولا بتوكيل من الشعب المصرى لحكمه.
المشهد السياسى الحالى يثير القلق، وقد نعتبر أن بعض من يدير الأمور ليس على مستوى المسؤولية، وأن هناك بطئا وتخبطا فى كثير من القرارات، إلا أن الأمر يتجاوز س أو ص، لأن مصر بحاجة إلى قرارات كبرى تغير من المعادلة السياسية المحلية والخارجية دون انفعال أو مراهقة، مثلما جرى فى 3 يوليو.
إن قيام الجيش بتحرك عسكرى لم تعرف عنه أمريكا شيئا، وحين عرفته، مثل المصريين، لم ترحب به، قد حرك فى وجدان الشعب قضية الكبرياء الوطنى والقدرة على عمل فعل من العيار الثقيل خارج الإملاءات الأمريكية.
فرغم اعتماد الجيش بصورة كبيرة على السلاح والمساعدات الأمريكية، فإن قيادته قامت بمخاطرة كبيرة (ومحسوبة) بعزل مرسى، وهو ما أعطى رسالة أمل هائلة لقطاع واسع من الشعب المصرى، بأن هناك من هو قادر على اتخاذ قرار كبير دون رضا أمريكا، وقد بالغ البعض فى أحلامه واعتبر أن عهد عبدالناصر قد عاد، وأن مصر ستشهد استعادة فورية لاستقلالها وكرامتها الوطنية وستبنى نهضتها الاقتصادية والسياسية.
لقد عاشت مصر تبعية مهينة للقوى الخارجية على مدار 30 عاما من حكم مبارك، كما أن حكم الإخوان المدعوم من أمريكا دفع بقطاع واسع من المصريين إلى البحث عن صورة المتحدى القوى لهذه التبعية الفجة، وجاء قرار السيسى بإنهاء حكم الإخوان ليخاطب هذه الصورة.
ومع مرور أكثر من شهر على عزل مرسى شعر الناس بأن الحلم الكبير لم يتحقق بعد، والحقيقة كان من المستحيل أن يتحقق أى حلم فى شهر أو عام، فانتفاضة الشعب وتحرك الجيش مجرد خطوة فى الاتجاه الصحيح، أما رد فعل الناس على هذا التحرك ودعمهم له فهما يدلان على أن هذا الشعب فى داخله طاقة كبرى يجب استدعاؤها مرة أخرى فى مواجهة الهجمة الخارجية الشرسة على مصر وكرامتها، مستغلة حالة العوز الاقتصادى والتبعية للخارج التى وقعنا فيها بسبب سياسات مبارك وجماعة مرسى، وليس بسبب البرادعى الذى قبل على مضض أن يجلس فى موقع مؤقت اسمه نائب الرئيس.
نعم استدعاء الوطنية المصرية فى مواجهة تدخلات الخارج، ومخاطر تفتيت مصر، وهدم دولتها وتحويلها لسوريا أو ليبيا أو عراق أخرى ولو معدة، يجب أن تكون فرض عين على كل مصرى.