من عظيم سعادتى أن ألحظ أن العديد من الأفكار الطموحة للتغلب على حالة الانقسام والاحتقان التى ضربت أطناب المجتمع تأتى من خلال شباب مصر. ومن أهم تلك الأفكار التى أعلنت مؤخراً ضرورة إنشاء مفوضية عليا للعدالة الانتقالية، وهو مطلب قديم لنا أكدنا عليه فى مقالات وحوارات سابقة، يضع مصر فى مصاف الدول التى تحترم حقوق الإنسان، ويعزز ثقة المجتمع الدولى فى مؤسساتنا الوطنية. ويهمنى فى هذا المقام أن ألقى بعض الضوء على المعايير التى يجب اتباعها عند تشكيل هذه المفوضية وتحديد اختصاصاتها والدور الذى يمكن أن تلعبه فى تطبيق منظومة العدالة الانتقالية، على نحو يمكنها من التصدى للإرث المتراكم من انتهاكات حقوق الإنسان ومعرفة حقيقة العديد من الأحداث والوقائع التى سبقت وعاصرت وتلت ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة وكشف النقاب عنها وجبر أضرار الضحايا على نحو ناجز، تمهيداً لبلوغ المصالحة الوطنية.
وهناك عدة أمثلة دولية ناجحة لإنشاء مثل تلك المفوضيات يمكن الاسترشاد بها ومنها تجربة جنوب أفريقيا التى اعتمدت على إنشاء «مفوضية معرفة الحقيقة وتحقيق المصالحة»South African Truth and Reconciliation Commission لاجتياز تجاوزات الماضى وتحقيق المصالحة الوطنية. أما على المستوى العربى، فيمكن الاسترشاد بالتجربة المغربية فى تحقيق المصالحة عن طريق الاطلاع على أعمال «الهيئة المستقلة للتحكيم للتعويض عن الضرر المادى والمعنوى لضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء القسرى والاعتقال التعسفى» «وهيئة الإنصاف والمصالحة».
وتطبيقاً على الوضع فى مصر، ومراعاة للسياق السياسى والمجتمعى، نرى أن يُطلق على الكيان المقترح مسمى «المفوضية العليا للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية»، على أن تنشأ بمقتضى القانون، وتختص أساساً بالآتى: «كشف وتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم استغلال السلطة وذلك منذ أول أكتوبر 1981 حتى تاريخ العمل بقانون العدالة الانتقالية، ومعرفة حقيقتها وأسبابها ومداها والمسؤولين عنها، وأوجه القصور فى مؤسسات الدولة التى أدت إلى ارتكابها، والعمل على عدم تكرارها مستقبلاً، واتخاذ إجراءات المحاسبة اللازمة بشأنها وتعويض وجبر أضرار ضحاياها واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لإرضائهم وذويهم، ومعالجة جذور وأسباب الانقسام فى المجتمع ومؤسساته، وصولاً للمصالحة الوطنية. وتسعى المفوضية من خلال عملها إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتعميق سيادة القانون ومحاربة سياسة الإفلات من العقاب».
ويجب أن تتمتع المفوضية بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد، والاستقلال الفنى والإدارى والمالى، بحيث لا تتبع السلطة التنفيذية، ولا ينتمى أعضاؤها إلى تيارات سياسية بعينها، ومن المهم أيضاً أن يكون لها ميزانية مستقلة يتم اعتمادها بقرار من مجلس الوزراء.
ونقترح أن تنظر لجنة تعديل الدستور الحالية تضمين الدستور الجديد النص الآتى: «تنشأ مفوضية عليا للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تشكل من رئيس وأربعة عشر عضواً من قضاة حاليين وسابقين وبعض الشخصيات العامة محل التوافق المجتمعى والقيادات الدينية وخبراء حقوق الإنسان وغيرهم من ذوى الكفاءة المتخصصين فى مجالات عمل المفوضية، ويصدر بتشكيلها قرار من رئيس الجمهورية، وتختص بتبنى الإجراءات اللازمة للتصدى للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإيجاد المعالجات العادلة والمنصفة لكل الآثار الناجمة عنها والعمل على عدم تكرارها مستقبلاً، ومعالجة جذور وأسباب الانقسام فى المجتمع وجبر أضرار الضحايا، وصولاً للمصالحة الوطنية الشاملة.
وميزة إنشاء المفوضية على هذا النحو أنها تعمل على معالجة كل أنواع المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان التى نالت من أطياف ومكونات عدة من المجتمع خلال النظامين السابقين. وينتهى عمل هيئات العدالة الانتقالية عادة بإصدار تقارير ختامية تتناول الإجراءات التى اتخذتها لأداء المهام المنوطة بها، وسرد الوقائع التى تكشفت لديها، وما اتخذته من إجراءات بشأنها، وتحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من تجاوزات أخرى، وتقديم مقترحات لمعالجتها وإصلاح مؤسسات الدولة، وما يعن لها من توصيات أخرى.