من فرط الجهل والغرور، هددتنا الجماعة بـ«أول حرب أهلية فى تاريخ مصر». بداية، تاريخ مصر حافل بالصراع الأهلى، لكنه صراع يشبه ما يحدث الآن، ويشبه ما يحدث عادة فى الصعيد، له تاريخ عمره آلاف السنين، منذ اختلاف عبدة آمون رع مع عبدة آتون، وربما قبل ذلك، لكنه صراع يشبه الصراع المصرى الدائم، بالبلدى: نقوم على بعض الصبح على بالليل كأن ماحصلش حاجة، أو نبيّت بعض متنكدين على الصبح كأن ماحصلش حاجة. إلا إنك لا تستطيع أن تشبه ما حدث فى تاريخ مصر من صراع أهلى بما حدث تاريخيًّا ويحدث الآن فى بلاد الشام أو العراق مثلًا. لأسباب لها علاقة بالجغرافيا، فتصميم المصريين على ترك الشقة كلها والإقامة فى غرفة واحدة يضيق الخناق على الحرب الأهلية التى تحتاج مساحات واسعة للتأهب، والهجوم، والتمترس وخلافه، كما أن الطبيعة المصرية لا تسمح بتكتل مجموعات تنتمى إلى ذات الديانة أو العبادة أو وجهة النظر السياسية فى مكان واحد كما يحدث فى بلاد أخرى، نظرًا إلى ضيق المساحة التى يشغلها السكان، لذلك، فكل مَن يجد مكانًا جيدًا للسكنة يسارع إليه دون أن يسأل عن ديانة الجيران أو مذهبهم.
هذا الشريط الضيق، الذى يصر المصريون على الإقامة فيه، تمامًا كإصرارهم على الإبقاء على مساحات الصحراء المحيطة بهم كجزء من بلادهم، وتحت سيادتهم وسيطرتهم، هو الذى صنع تكوينات الشخصية المصرية التى تستعجم على جماعات الإسلام السياسى لسبب مجهول.
التكأكؤ فى مكان ضيق خلق شعورًا حميمًا بين المصريين، ذلك التقارب أضفى إحساسًا أسريًّا متبادلًا بين الناس، أو كما قال الدكتور عزمى بشارة معلقًا على ثورة 25 يناير: نزل المصريون كأنهم أسرة واحدة، ولا أقول عائلة، ذاهبة للتنزه. بالطبع لم يعد شعور الأسرة الذاهبة للتنزه موجودًا الآن، الإحساس الغالب حاليًا هو أنها أسرة «واقفة على الطلاق»، أو أسرة نكبت بابنها المدمن، أو المعتوه، أو المجرم، الذى يدخل الأغراب على إخوته البنات وهن بملابس البيت، لكنها تظل أسرة. هذا الشعور بالحميمية بين المواطنين يظهر فى كل تصرفاتهم، فالمصريون «بيلزقوا فى بعض»، بشكل يوتر أعصاب ذوى النفس الضيق من أمثالى، حين يستعمرون منطقة عشوائية، يختارون مكانًا ضيّقًا، من وسط مساحة شاسعة، لـ«كركبة» السوق الخاصة بالمنطقة فوق بعضها. هذه الكركبة تقف عائقًا تقنيًّا فى وجه الحرب الأهلية التى تحلم بها الجماعة.
هذه الكركبة أيضًا تخلق شعورًا بالانكفاء على الذات الوطنية، أو بما يطلقون عليه بالإنجليزية: xenophobia
بمعنى: رهاب الأجانب. ليس الأمر خصلة دائمة، فالأجنبى عادة ما يأتى و«يتزنق» معنا فى الكركبة، وبعد برهة يصبح واحدًا منا، لكن فوبيا الأجانب تتبلور، وتتأجج، حال الشعور بالخطر، التى يعقبها حالة الانكفاء المذكورة. أود أن أكرر أن هذه المشاعر «الانكفائية» ليست لها علاقة «بهوية الدولة الحديثة التى أسسها الاستعمار»، كما يدّعى حسام أبو البخارى، الذى قال إن الجيش المصرى يريد أن يحافظ على الهوية المصرية التى خلقها الاستعمار! اختشى على دمك على فكرة، استعمار إيه ده اللى يعمل لنا احنا هوية؟ ده احنا اللى بدعنا الهويات، ونحن من أتلفنا هوية كل مَن أراد أن يفرض هويته علينا، واستقبلنا الغريب وصنعنا بكل وافد ما صنعناه بالثريد، الذى أتى من بلاده لا يزيد عن كونه أرزًا وخبزًا ولحمًا مسلوقًا، لنضيف إليه التقلية أم خل وتوم والصلصلة.
الـxenophobia
تعد مرضًا اجتماعيًّا، لكنها وسيلة المقاومة الوحيدة التى يتترس بها المصريون حين يشعرون أن غريبًا يريد أن يهدّد البيت الذى يسكنون فيه، أو أن واحدًا من الأسرة يريد أن يستجلب غريبًا ضدهم. وأحيانًا ما يتخذ شكلًا كوميديًّا، كأن يحتجز عمرو مصطفى اثنين من السويد ويوسعهما ضربًا فى جراج البناية التى يقطن فيها، ليحبط المخطط الأجنبى ضد مصر، لا بل ويطالب شعب مصر بأن يحذو حذوه ويقبض على كل أجنبى ليحبط مخططه. لكن المصريين يجدون أن هذا المرض الاجتماعى الذى يستخدمونه كسلاح مؤقت، أفضل من أن يحمل بعضهم على بعض السلاح، وأن يبدأ كل طرف منهم بإطلاق تصريحات مرعبة، كأن يهذى، المغير تانى، صبيحة عزل مرسى: أسقطنا مروحية ومرسى مطروح محررة تمامًا! كان يجب أن تثير مثل هذه التصريحات فزع المصريين، إلا أنها أثارت ضحك كل متابعينه، لأن كل مَن يقرأ هذا الكلام، بصرف النظر عن سنه ومستواه الثقافى، يعرف عن مصر ما لا تعرفه تلك الجماعة التى تعيش فى ضلالات وانفصال عن محيطها.