يوم ٣٠ يونيو، منح الشعب تفويضًا لخريطة طريق تتضمن القضاء على الإرهاب، ويجب أن تطبق دون الحاجة إلى برهان جديد، مع ذلك جاء تفويض ٢٦ يوليو وكان تفويضا بإجراءات ثورية، لا إجراءات دولة، ومع هذا يمكن قبول التخفيض، لو كانت إجراءات دولة رشيدة وحازمة فى الوقت ذاته، لا إجراءات دولة مرتعشة تضرب بعصبية، ثم لا تلبث أن تصبح نادمة مترددة وتعود لتستجيب لتوازن الإرادات الدولية المتعارضة، حتى لتكف عن الفعل وتترك المواجهة تُختزل فى الحرب الكلامية بين جنرالات الإعلام وأركان حرب جماعة الإخوان. وكل صوت يعلو على صوت هذه المعركة عديمة النفع تتعرض سمعته للسحل، بمن فيهم البرادعى، الهدف الأول للتنشين دائمًا.
لم يكن البرادعى وحده مَن عبّر عن انزعاجه من أعداد القتلى فى حادثى دار الحرس الجمهورى والمنصة. كل من يحسبون أنفسهم بشرًا وكل من يحسبون أنفسهم ثوارًا لم ولن تعجبهم سهولة سفك الدماء، لأن الكرامة الإنسانية هى جوهر ثورتنا المغدورة. وبالتالى فالهجوم على البرادعى ليس عادلاً ولا منطقيًا، لكن د.محمود كبيش ينبه البرادعى إلى أنه مسؤول كبير فى الدولة، وينبغى أن يتثبت من الحقائق قبل أن يتكلم.
بحس أستاذ القانون الجنائى، أثار «كبيش» فى لقائه و«د.حازم حسنى» مع «أسامة كمال» على «القاهرة والناس» مساء السبت الماضى، ملاحظة حول مصدر الجثث التى كانت تدخل إلى المستشفى الميدانى، لترص تحت كاميرات المراسلين المتواجدين سلفًا فى تلك الساعة المبكرة.
أعداد الضحايا التى علقها الإخوان فى رقبة الشرطة ليلة المنصة مجرد قول يواجهه قول آخر يتهمهم بقتل من يشكّون فى ولائه بالميدان. وبمنطق البحث الجنائى، من الوارد أن تكون واقعة المنصة صيدًا لعصفورين بحجر واحد؛ بمعنى أنها فرصة للتشهير بالدولة، والتخلص من جثث أخرى جاءت من رابعة لتحسب زورًا على المنصة!
ربما نضيف ملاحظة حول رفض الإسعاف ورفض تشريح الجثث من قبل الجماعة لتزكية هذه الفرضية. ولست هنا بصدد التمسك بفرضية جنائية تتعلق بواقعة واحدة حتى لو كانت شديدة المعقولية، بل للتفريق بين دولة رشيدة تفعل ما عليها فعله وتتحاشى سفك الدماء، وبين دولة رخوة تتساهل وتتكاسل عن واجبات ما قبل المواجهة، الأمر الذى يجعلها فى النهاية مضطرة لخوض مواجهة دموية جديدة مفروضة عليها من الطرف الآخر.
البحث الجنائى هو الباب الذى لم نطرقه، مكتفين بالتلاسن مع المعتصمين وعرض فيديوهات التحريض، وهو جريمة يعاقب عليها القانون، ويمكن أن تصدر بها عقوبات غيابية طالما لم يسلم المتهم نفسه. وهناك اتهامات بجرائم أخرى يستطيع البحث الجنائى تقديم أدلتها، الأولى هى جرائم القتل داخل الميدان، والثانية ارتفاع نسبة البلطجية المستأجرين، وهذه الظاهرة وحدها قد تكون المسؤولة عن تزايد أعداد المعتصمين فى الفترة الماضية والشروع فى فتح بؤر أخرى لإرباك الحياة.
القرويون الذين لا تبل فى أفواههم فولة يتحدثون عن موسم هجرة إلى رابعة، فى ظاهرة منظمة يديرها مقاولون يتولون توريد الأنفار، وأموالها تأتى من أموال الجماعة السائلة، وأخرى تتطوع بجمعها الكوادر الأصغر فى المحافظات. أجر المعتصم المياوم يتراوح بين خمسمائة ومائتى جنيه، بالإضافة إلى متظاهرى المياومة الذين يأتون من القرى ومن أحياء القاهرة الفقيرة هناك ظاهرة استغلال أطفال الملاجئ ووجبات الجمعيات الخيرية، وكلها ظواهر تنطوى على جرائم وتخرج عن قواعد الاحتجاج السياسى.
لا يمكن للبحث الجنائى أن يعجز عن إثبات بعض التهم المتعلقة بالظاهرة وإحالة مرتكبيها إلى المحاكمة، كما لا يمكن أن يعجز عن متابعة التحقيق فى انتماءات وأصول الضحايا، ليتحقق من انتمائهم للجماعة من عدمه، أما أن تظل مجرد اتهامات ومعلومات سرية تسرب لجنرالات الفضائيات، لا يلبث جنرالات الجماعة أن ينفوها، فسينتهى الأمر إلى أن تصبح بلا قيمة، بل سيتحول ما حدث فى ٣٠ يونيو إلى موجة جديدة من العجز المفضى إلى الفوضى.