من المؤكد أن الإعلام فى بلاد العالم لا يتحرك بصورة منفصلة تماما عن النظم السياسية القائمة، ومن المؤكد أيضا أن الحديث عن حياد الإعلام وموضوعيته يمثل تحديا دائما لكل الإعلاميين، بصرف النظر عن النظم التى يعيشون فيها.
والمؤكد أن قناة الجزيرة مثلت حالة محيرة للكثيرين حين ارتدت ثوب الثورية وهى تخرج من بلد نفطى محافظ، ثم تحولت هذه الحيرة إلى رفض وإدانة بعد أن مارست، منذ 30 يونيو، تحريضا حقيقيا ضد الشعب المصرى، كأنها لا ترضى بغير هدم الدولة والاقتتال الأهلى بديلا له.
لقد تمسكت الجزيرة بخط واضح منذ 30 يونيو يقول إن ما جرى فى مصر هو مجرد انقلاب عسكرى، وإن عدد المشاركين فى مظاهرات ذلك اليوم بالقاهرة لا يتجاوز بضعة آلاف، وإن صور ميادين الإخوان كانت هى الحاضرة منذ اليوم الأول فى تغطية الجزيرة، وكأن الأمر هو تمرد أو انقلاب على زعيم شعبى اسمه محمد مرسى.
وقد حرصت الجزيرة على أن تسير فى خط واضح يقول لمشاهديها إن عدد من شاركوا فى انتفاضة 30 يونيو 4 ملايين مواطن وليس 30 مليونا، بعد أن قامت بحسبة نادرة فى تحيزها وعدم مهنيتها، واعتبرت أن مساحة ميدان التحرير والشوارع المحيطة به مع قصر الاتحادية تسمح بوجود ما يقرب من مليون مواطن، وأضافت مساحات مشابهة للمحافظات المختلفة لتوصل رقم المتظاهرين إلى 4 ملايين فى كل أنحاء الجمهورية.
وقد نست أو تناست أنه لا أحد فى الدنيا يربط عدد المتظاهرين فقط بالمساحة، لأنه يفترض أن هؤلاء يبقون فى أماكنهم من الظهر وحتى الفجر، ولا يتبدل عليهم أعداد أخرى، وأن رقم الـ4 ملايين متظاهر مرشح للتضاعف إذا قدرنا أن هناك أعدادا تدخل وأخرى تخرج من الميادين المختلفة طوال ساعات التظاهر.
والحقيقة أن نفس المنطق الحسابى الخاص بمساحة ميدان التحرير وساحة الاتحادية ينطبق على ميدان رابعة العدوية، الذى نسيت أن تقول لنا الجزيرة إن مساحته لا يمكن، بأى حال من الأحوال، أن تتحمل وجود أكثر من 50 ألف شخص.
إن محاولة تقليل أعداد المشاركين فى مظاهرات 30 يونيو أمر يحمل انحيازا سياسيا فجا منذ البداية، فإذا افترضنا أنهم 8 ملايين وليسوا 30 مليونا، فسيظل رقما استثنائيا مقارنة بأى مظاهرات ثورية فى العالم، وأيضا مقارنة بالآلاف الذين اعتصموا فى رابعة العدوية والنهضة، فهناك ملايين تظاهروا ضد مرسى يمثلون إرادة شعب وآلاف دافعوا عنه يمثلون فصيلا أو صوت احتجاج.
تحيزات الجزيرة صادمة ولا يفهم المرء هذا الإصرار على التقليل من حجم ما جرى فى 30 يونيو أو من حجم الرفض الشعبى لنظام مرسى، وكأن الرجل كان زعيما شعبيا محبوبا وفجأة قرر فصيل سياسى مدعوم من الجيش أن ينقلب عليه.
مؤسف أن تتحول الجزيرة إلى صوت للهدم فى مواجهة إرادة شعب بأكمله، وأن تقضى وقتها وتنفق من أموال القدر والصدفة وبهذا البذخ لكى تقول إن ما جرى فى مصر لم يكن ثورة، إنما انقلاب عسكرى. فتلك حسابات الدويلة اللغز قطر التى يجتهد الكثيرون فى فك رموزها.