حفنة الصراصير البيضاء وقطيع السماسرة والمتاجرين فى بضاعة الدين القدماء العواجيز منهم والمحدثين الذين لا علاقة لهم بالموضوع الدينى كله أصلا، لا فى المظهر ولا فى المخبر (أصول الأدب تمنعنى من ذكر أمثلة) ومع ذلك اكتشفوا ونحن نتلظى بنار أيام «عام الجمر» الإخوانى أن هذه التجارة الحرام تفتح أمامهم أبواب رزق وفير وسهل جدا ولا يتناسب بالمرة مع ضحالة عقولهم وضعف قدراتهم وفقر مواهبهم، كما أن أغلبه يتدفق من خارج الحدود (قطر و«جزيرتها» الغارقة فى الوحل مثلا) وهو أمر زاد المغريات والأطماع ووفر ميزات نسبية لا تتمتع بها سائر الأنشطة التجارية المشروعة، أهمها أن سوق تصريف البضاعة مضمون ومحرر تماما من أي قيود!
هذه الحفنة وذلك القطيع البائس ربما يقرفنا وجودهم فى الدنيا ويزعجنا صوت طنينهم الذى تعالى (لأسباب تجارية بحتة) بعدما أزال الشعب المصرى عار جماعة الشر السرية من على جبينه، لكن لا يجب أبدا أن نمنحهم أى اهتمام ولا أن نضيّع وقتنا فى الرد على هلفطاتهم وأكاذيبهم الجهولة المضحكة ونصبهم الخايب.. أقول هذا وأنا مدرك أن حفنة من الناس الغلابة الطيبين فى عقولهم عربدت الغباوة وعاثت خرابا فى ضمائرهم فانضموا إلى صفوف جوقة الأرزقية الأشرار وراحوا هم أيضا يرددون بعض آيات النصب، فيحدثونك تارة عن «المصالحة» مع عصابات الفاشية والإجرام و«لمّ شمل القاتل» على المقتول، وتارة أخرى يبررون بكلام فارغ ما أنزل الله به من سلطان، عربدات هذه العصابات المسلحة وفواحشها العلنية اليومية فى شوارع البلاد ويسوّغون أو يشجعون استمرار صمت الدولة وتفرجها على جرائم بشعة ومقززة يندَى لها الجبين ترتكبها فرق البلطجية الجوالة وسقط ضحيتها حتى الساعة (فى مدن ومحافظات الوادى وفى شبه جزيرة سيناء) نحو ثلاثمئة شهيد وآلاف الجرحى فضلا عمن استُشهدوا تحت التعذيب الوحشى (تحت إشراف أطباء مجرمين فقدوا كل علاقة بالبشر الأسوياء) فى بؤرتى القذارة والخيانة المنصوبتين فى منطقة رابعة العدوية وأمام بوابة جامعة القاهرة!!
هؤلاء الشهداء والجرحى والمعذبون عميت عيون هؤلاء الذين استعاروا من فرط الجهالة والعبط سفالات التجار وأكاذيبهم عن أن تراهم، فغابوا تماما عن اهتمامهم المنصب فقط على تدليع وضمان سلامة الوحوش والقتلة.. لهذا سأختم بسطور كتبتها هنا منذ عامين كاملين حكيت فيها حكاية مناسبة لحالنا الراهنة وقدمتها بالآتى:
.. يسرح فى الساحة الآن قطيع من الجهلة المتحزلقين يهلفطون كتابة أو شفاهة بكلام فارغ من قبيل ضرورة التخلى عن «الروح الثأرية» وترك الماضى يمضى لحال سبيله، هؤلاء يتجاهلون عمدا الفرق الشاسع بين الثأر والعدالة وأن هذه الأخيرة شرط لازم لإغلاق جراح الماضى على نظافة، لكننى أهديهم ملخصا مخلا جدا لوقائع مسرحية رائعة كتبها الروائى والمسرحى التشيلى أرييل دورفمان (رفيق مواطنه الشاعر الشهيد بابلو نيرودا) نُشرت فى مطلع تسعينيات القرن الماضى بعد سقوط الديكتاتور العاتى بينوشيه، وقد استعار الكاتب اسمها «الموت والعذراء»، من رباعية وترية أبدعها الموسيقى النمساوى فرانز شوبرت حملت الاسم نفسه، أما أصل أحداث هذه المسرحية التى اقتبسها المخرج السينمائى الكبير رومان بولانسكى وحوّلها لفيلم عام 1992، فإن «دورفمان» اقتبسها من واقعة حقيقية كانت تسربت أخبارها إلى صفحات الصحف أيامها.
تدور دراما «الموت والعذراء» فى بلد خرج للتوّ من حكم ديكتاتورى قاسٍ وأبطالها ثلاثة فقط هم زوجة وزوج وطبيب.. الأولى ضحية تعذيب بشع تعرضت له فى سجون الديكتاتورية وصل إلى حد اغتصابها مرات عدة لكى تعترف على زوجها الناشط السياسى المعارض لكنها لا تعترف بل تصمد أمام العذاب الرهيب الذى كان يتم تحت إشراف طبيب منحرف وغريب الأطوار تعوّد أن يستمتع ويُسمع ضحاياه موسيقى رباعية شوبرت فى أثناء علميات التعذيب والاغتصاب.
بقيت الزوجة 15 عاما لا تستطيع نسيان ما جرى لها وتعيش طول الوقت تحت ثقل عذاباته وآلام جراحه الغائرة، وفى مساء أحد الأيام بعد سقوط الديكتاتور وتشكيل لجنة قضائية وطنية للتحقيق فى الجرائم ووقائع القمع التى شهدتها البلاد وكان زوجها واحدا من أعضائها البارزين، فاجأها هذا الأخير بأنه يعود للبيت مصطحبا معه رجلا لم تره من قبل تعرّف عليه الزوج مصادفة عندما تعطلت سيارته فى الطريق فوقف له الرجل وعرض بلطف مساعدته وتوصيله بسيارته وقد رد الزوج بدعوته للعشاء ثم ألح عليه أن لا يغادر وأن يقضى مع الأسرة الصغيرة ما تبقى من ساعات الليل.
فى البداية لا تكترث الزوجة بهذا الضيف الغريب، بيد أنها سرعان ما تداهمها الشكوك فى الرجل، فقد لاحظت أن نبرات صوته تشبه كثيرا صوت الطبيب الذى أشرف على اغتصابها فى السجن.. ويتحول هذا الشك إلى يقين عندما انتهزت فرصة نوم الضيف واختلست مفاتيح سيارته وفتشتها فإذا بها تعثر على شريط رباعية الموت والعذراء، وعندئذ وفورا تهاجم الزوجة الطبيب المجرم النائم وتقيده وتشد وثاقه بإحكام وقد قررت أن تجعله «سجينها الخاص» على أمل أن تفوز أخيرا براحة القصاص بعيدا عن بيروقراطية وبرودة لجنة زوجها الرسمية.
من عند هذه النقطة تمضى المسرحية بعد ذلك فى صراع لفظى حامى الوطيس بين الشخصيات الثلاث أطلقته الزوجة الضحية لحظة أن سألت بمرارة: كيف يمكن للجلادين وضحاياهم أن يعيشوا مستقرين على أرض واحدة؟!