كان السيناتور الجمهورى جوزيف مكارثى رجل قانون مرموقا. انتخب عام ١٩٣٩ أصغر قاض فى محكمة الاستئناف بولاية ويسكنسن، وبعد عامين تطوع للخدمة فى مشاة البحرية ليشارك فى الحرب العالمية الثانية. عاد منتصرا، وانتخب نائبا عن ولايتة.
فى عام ١٩٥٠ أصبح من أشهر الشخصيات الأمريكية وأكثرها إرعابا. رجل العدالة، المحارب من أجل الحرية، قاد واحدة من أكبر محاكم التفتيش، بحجة محاربة الشيوعية. ادعى مكارثى أن بعض الحكوميين وكثيرا من المثقفين والفنانين عملاء للاتحاد السوفيتى! حملات إعلامية ضخمة صنعت رأيا عاما مساندا، مكن الرجل من إنشاء وترؤس «لجنة تحقيق النشاط المعادى لأمريكا». استدعت اللجنة موظفين كبارا، كتابا، فنانين ومثقفين، تسألهم عن آرائهم السياسية وإنتاجهم الفنى والثقافى وتناقشهم فيه، للتأكد من أنهم لا يروجون للشيوعية.
أدت نشاطات اللجنة إلى إدانة وسجن بعض العاملين فى الحكومة، دون أدلة كافية. كثير من المفكرين والفنانين هاجروا إلى أوروبا هربا من ملاحقات اللجنة. بعضهم اضطر إلى الشهادة ضد أصدقائة أو العاملين لديه مثل والت ديزنى وإليا كازان، وبعضهم أدانته اللجنة، بعد أن رفض التعاون معها كآرثر ميللر. انتبه الأمريكيون بعد ثلاث سنوات إلى أنهم يؤسسون إلى ديكتاتورية جديدة. انتفضوا ضد مكارثى ولجنته، وتلقى الرجل تأنيبا رسميا من مجلس الشيوخ، ومات وحيدا فى سن الثامنة والأربعين. ظل مصطلح المكارثية تعبيرا عن الإرهاب الثقافى الذى يمكن أن يمارسه المجتمع، بحجة حماية ذاته لينتهى إلى تأسيس فاشية جديدة. فى مصر، وجدت المكارثية سوقا رائجة عقب يناير ٢٠١١.
بدأ الأمر بحملات لعزل «الفلول». جرى الهجوم على موظفين رسميين، فنانين ومثقفين كبار، والتفتيش فى آرائهم وأعمالهم والدعوة إلى مقاطعتهم، بحجة أنهم تعاونوا بشكل أو بآخر مع نظام مبارك. مع وصول «الإخوان» إلى الحكم بدأت المكارثية تتجه صوب «الليبراليين ودعاة الدولة المدنية» ترصد تصرفاتهم الشخصية وأقوالهم وكتاباتهم وتقدمهم إلى المجتمع فى صورة المنحلين أخلاقيا والفاسدين سياسيا وماليا، وكما هى العادة تصاعدت الدعوات التى استخدمت فيها منابر المساجد لعزلهم، فضلا على إنهاكهم أيضا بالبلاغات القضائية الزائفة، بحجة ازدراء الأديان وإهانة الرئيس!.
دالت دولة الإخوان، انتفض «الليبراليون» وبعض من «الفلول» ليقيموا محاكم التفتيش ضد كثير من المفكرين المرموقين بزعم أنهم إما «خلايا إخوانية نائمة» أو «معادون للدولة المدنية وقيمها»!! لا لشىء غلا أنهم دعوا إلى التعقل فى وقت اجتاح الجنون كثيرا ممن كنا نظنهم من العقلاء. لا يمكن السماح باستمرار عمليات الإقصاء الفكرى والسياسى لمصريين لمجرد أنهم يحملون فكرا يختلف عن فكر الحكام، لا يجب أن يستمر الإعلام فى إدارة حملات التحريض والكراهية أيا كانت ضحاياها. على الجميع أن يعلم أن «الحض على الكراهية» جريمة جنائية لا تسقط إلا بعد ثلاث سنوات فى مصر. اليوم تتغير النظم السياسية بأسرع من مدة انقضاء الجريمة.