بعد عزل مرسى، تكرس لدى فريق من مواطنينا صورة الجيش كمخلص لهم وبطل يظهر وقت الحاجة، بينما فقد صندوق الانتخابات بريقه لدى نسبة من مؤيدى مرسى وإن صرخوا بأنه الدليل على شرعية بقاء الرجل فى منصبه، متسائلين «أين صوتى»؛ فنتائج استفتاءات وانتخابات برلمانية على مدار عامين ونصف قد عصف بها من وجهة نظرهم، بالإضافة للجهد والمال فإن خسارة أكبر تتعلق باحتمال تراجع حماس قطاع من المصريين «مؤيدين ومعارضين» لتكرار التجربة أو حتى الإيمان بهذا الطريق «الانتخابات».
فى انتخابات مجلس المحافظات الأخيرة بالعراق سجلت العاصمة بغداد إقبالا أقل من المتوقع، وكثيرا من الأصوات الباطلة، وبينما تسارع العراقيون طواعية صوب مراكز الاقتراع فى 2005 فى أول انتخابات عامة بعد إسقاط صدام رغم تهديدات تنظيم القاعدة بالقتل للمشتركين، فقد فقدت نسبة من هذه الجماهير حماسها لهذا المعطى الجديد وقتها «الانتخابات»؛ فهو لم يحقق ما تطمح له من تمثيل لمصالحها، وبسبب اختيارهم على أساس طائفى مرة وبسبب القيادات السياسية الفاسدة التى رشحت وفازت عدة مرات، لم يعد لهذا المسار بريقه. فى الحالة المصرية هناك شواهد أن تعقد المشهد الحالى قد يدفع نسبة من المواطنين لتجاهل العمل السياسى بالأخص ما ارتبط منه بالانتخاب المباشر والتصويت. وقد يستدعى الذهن «مع بعض الاختلافات» فترة ما قبل يوليو 1952 عندما تكرر عصف الملك بإرادة الناخبين وإساءة استخدامه وسيلة حل البرلمان وفساد بعض الساسة، ففقد المواطنون الثقة فى الجميع تقريبا. شعب حديث العهد بالممارسات الديمقراطية والعملية الانتخابية قد يسهل عليه أن يعتزلها رغم شغفه الطارئ بها أو بتفاصيلها الظاهرية عقب يناير 2011. ماذا خطط الحكام الحاليون والقوى السياسية لتفادى تنامى هذا الاتجاه؟
وبالنظر للدماء والمصادمات التى تحدث بمعدل يومى خلال الفترة الأخيرة، سيفضل كثيرون الابتعاد ولو لحين. الابتعاد لا يعنى عدم الاقتراع بل قد يعنى أن يختار الناخب بطريقة زائفة. لاحظ مثلا أنه بالإضافة للتلاعب بالعامل الدينى فإن نسبة من المصوتين بنعم للتعديلات الدستورية فى مارس 2011 اختارت هذا، لأنه ما بدا متوافقا مع رأى من كان فى موقع اتخاذ القرار وقتها، ونسبة من المصوتين للمرشح الرئاسى شفيق فى 2012، خصوصا فى الوجه البحرى، كان يحركهم أنه عسكرى سابق وكان فى السلطة ويعتقدون أن هذا أضمن «للاستقرار»، هؤلاء قد يبتعدون عن المشاركة السياسية بما يكتنفها من عنف الآن أو يختارون بنفس الطريقة المرشح «الأضمن». فهل هذا انتخاب حر وواعٍ؟ وما الجهد الذى بذل لتغيير طريقة تعاطى المصريين مع الشأن العام نحو مشاركة فاعلة واعية؟ كم من الأقباط مثلا يخشى تهديدات منصة مؤيدى مرسى وما يحدث على الأرض مؤخرا من استهداف لبعضهم ولكنائسهم فى عدة محافظات؟ لا تتدخل قوى الأمن والشرطة بالقدر الكافى لمنع هذه الاعتداءات، ألا يخشى أحد أثر هذا؟ القريب والبعيد؟ وماذا يحمل النظام الانتقالى والساسة لضمان استمرار مشاركة هؤلاء مثلا وعدم العودة لحالة السكون القديمة؟
ومع شعور مؤيدى مرسى «بالمرارة» و«الغضب»، وإصرار قادة الإخوان على أنه لا بديل عن عودة الرجل، فإن البعض قد يعكف بعد فترة عن الاهتمام بالعمل السياسى وإن كان سيصوت غالبا فى أى انتخابات لاحقة للمرشح الذى يشبه رئيسه المعزول، بينما قد يلجأ البعض الآخر إلى العنف سبيلا. تأمل عقيدة «الاستشهاد» التى يملأ بها قيادات الإخوان نفوس وعقول جمهورهم، انظر لاستسهال اللجوء للقوة المفرطة من رجال الأمن فى بعض الأحداث «وليس كلها» وأثر هذا. أما الجماعات المتطرفة التى تزايدت هجماتها هذا الشهر على قوات الأمن والشرطة فى سيناء وغيرها، فقد تجد بين الغاضبين عناصر جديدة تنضم لهم. الوضع السياسى فى مصر الآن ليس ببساطة الاختيار إما مع مؤيدى الديمقراطية الصندوقية أو مؤيدى مرسى، أو معارضى مرسى أو مؤيدى ديمقراطية الحشود الشعبية، صحيح أن فريقا يحمل صورة مرسى فى يد وشعارات الإسلام السياسى فى الأخرى، لكن الفريق الثانى لا تقتصر صفوفه على المؤمنين بمصر دولة مدنية تعلى من كرامة الإنسان وتحافظ على حقوقه. ديمقراطية الصندوق أمام ديمقراطية الحشود اختيار لن يوصل إلى شىء ثابت مستقر، ونحن فى لحظة زمنية امتهن فيها المساران بجدارة، بينما حاصر الجيش وللمرة الثالثة بدهاء نبتة الحراك الشعبى القادم من الجذور والقابل للبناء عليه «العصيان المدنى». آن الأوان للبحث عن حل يجنب البلاد العنف ويجرم بوضوح التسلط باسم الدين أو المنصب «ويعاقبه»، ويؤمن فى نفس الوقت «ويضمن» مشاركة الجماهير فى اختيار «واعٍ» لممثليهم ومراقبة أدائهم. إن ما يحدث فى هذه الفترة سيحدد كثيرا من ملامح العمل السياسى فى مصر لاحقا، فلندور الأمر فى كل الاتجاهات، فالعزوف عن الشأن العام أو المشاركة لاحقا برد الفعل أو جريا على الهوى العام، أوالتصويت غير الواعى أو الانتقامى ليس فى صالح أحد.