هناك فارق كبير بين من يصدقون الصور الجميلة الناصعة لـ«لحظات الثورة» التي يتم رسمها بغرض وضعها على الأرفف أو تحنيطها في المتاحف، وبين من يعرفون أنها طريق طويل ضروري، فيه من الأمل والابتهاج بقدر ما فيه من القنوط والأسف الشديد، والصور التي ستواجههم طوال الطريق لن تخلو أبدًا من التعقيد والإرباك، ولكن التراجع عن هذا الطريق هو نكوص في اتجاه الأسوأ.
عادة ما يطغى الأسف الشديد على الأمل وقت تأزم إحدى جولات الصراع بالقدر الذي يؤدي إلى بدء نزيف للدم، يضغط على أطراف الصراع جميعًا، ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن ترسم لنزيف الدم مسارات تستخدمها في صراعها.
منذ 30 يونيو وإلى الآن ونزيف الدم يتصاعد بشكل مخيف مع توقعات بمزيد من التصاعد، ولكن رغم كل أمانينا وأسفنا إلا أن اتخاذ الموقف بناءً على «صور مزيفة» لن يفيد بأي شيء، لا في وقف نزيف الدم ولا في التقدم تجاه مجتمع تخفت فيه رغبات السيطرة لصالح ضمانات الحياة.
مشهد الدم النازف الآن والمتوقع أن يتصاعد، يتم تصويره من طرفي الصراع من خلال صورتين مزيفتين أساسيتين:
الصورة الأولى «أجهزة دولة وطنية تحترم حقوق الإنسان -أو تعرف كيف تحترمها أثناء عملها- ولكنها تواجه احتجاجات عنيفة يتم وصفها الآن بالإرهاب».
وهذه الصورة إما يتم ترويجها من رجال أجهزة الدولة التي انحازت لـ30 يونيو وساهمت في إسقاط سلطة الإخوان. وفي بعض الأحيان يبدو أن بعض من ساهم وشارك في موجة 30 يونيو– التي أنحاز إليها بكل وضوح- يحب أن يتوهم ذلك أو يتمناه، لأنه يود أن تكون كل الأطراف المنحازة لما يعتقده «الموقف الصحيح» هي أطراف بالضرورة أطراف نقية وطاهرة، مثل «صورة ثوار 25 يناير» في كتالوج تحنيط الثورة، ولذلك يمكن لانهيار هذه الصورة أن تُلجِئه إلى التشكك والتراجع والاستسلام لفكرة تحنيط الثورة لصالح أي سلطة.
رغبتنا في «أجهزة دولة تحترم حقوق الإنسان» مازالت مجرد رغبة ولا يجب أن نتوهم أن تَحَقُّق ذلك حالًا وفي هذه اللحظة ممكن. يمكننا أن نحاول الضغط على هذه الدولة لكي تحاول التظاهر بذلك أو الالتزام به إكراهًا، ولكن لا يجب أن نتظاهر أو نتوهم أن أداء أجهزة الدولة التي لا تحترم ولا تبالي بحقوق الإنسان هو نتيجة لـ«الانقلاب على الثورة ومنجزاتها» وأن «عقارب الساعة تعود إلى الوراء». وغير ذلك من «الأوهام الدعائية» لفلول الإخوان، الذين لم تتقدم معهم أجهزة الدولة، وفي القلب منها الشرطة، في اتجاه حقوق الإنسان، ولم تمسها ريح ثورة، ولكن الماكينة الدعائية لفلول الإخوان تستغل الصورة المزيفة التي يروّجها بعض أطراف 30 يونيو لترسم الصورة المزيفة الثانية.
الصورة الثانية هي «أننا أمام ثوار أحرار مدافعين عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يواجهون انقلابًا من أجهزة دولة معادية لهم وللثورة، تنتهك حقوق الإنسان والحريات»، وبالتالي تدفعك هذه الصورة لأن يكون موقفك هو التعاطف مع حركتهم ومطلبهم، واستجابتك لنتاج العنف بين أجهزة الدولة وبينهم هو أنهم «أخيار» في «الموقف الصحيح» ويواجهون «الأشرار».
ولكن صورة الوضع المعقد الحالي هي معكوس الصورتين المزيفتين الأولى والثانية. نحن أمام أجهزة دولة لم تمسها ثورة ولم تتقدم ناحية احترام حقوق الإنسان والديمقراطية في مواجهة «ثوار مزيفين» ليس لديهم رغبة أصيلة في التقدم نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولذلك كان من السهل عليهما أن يتحالفا. التحالف يخدم الإخوان كثوار مزيفين يتسلمون السلطة بعد ثورة «انتهت» ويخدم رغبة بقايا نخبة أجهزة الدولة في استمرار سلطتهم في مواقعهم.
جمعتهم الرغبة في «توطيد السلطة» وجمعهم «الادعاء» بالاهتمام بالحرية وحقوق الإنسان، لأن تلك المسائل ليست جوهرية لهذا الطرف أو ذاك، هي في أقصى الأحوال مسائل ثانوية، ولذلك كان التحالف الذي استمر سنة موجهًا سهامه في مواجهة من طلبوا التقدم نحو تغيير حقيقي في اتجاه ضمانات للحريات وحقوق الإنسان وبناء ديمقراطية حقيقية.
قسم لا بأس به من أطياف 30 يونيو، وهم أنصار التقدم في تغيير حقيقي، تشكل الحريات وحقوق الإنسان جانبًا أساسيًا منه، ومستمرون في انحيازهم لذلك، وكانوا طوال السنة الماضية من حكم الإخوان ضد الاثنين المتحالفين، لكن في النهاية هم ليسوا مع هدم أو تحطيم أجهزة الدولة –على الأقل لصالح بناء أجهزة جديدة ودولة جديدة يضع أسسها السلطويون الإسلاميون- لكنهم مع تحرير هذه الأجهزة وإصلاحها، ولكنهم في المقابل وبكل قوة مع هدم سلطة الثوار المزيفين وفصلها عن أجهزة الدولة، لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحريرها بعيدًا عن استغلالها لتثبيت سلطة الإخوان.
ولأن الإخوان ليسوا فقط ثوارًا مزيفين، لكنهم أيضًا أغبياء وفاشلون في التزييف، فكان نجاح مقاومي سلطة الإخوان المستمر منذ نهايات 2012 وحتى 30 يونيو 2013 أنه ساهم في كسر التحالف بين الطرفين. بشاعة ما يحدث الآن من صدام بينهما أن الثوار المزيفين لا يرون طريقًا إيجابيًا إلا في الدفاع عن سلطتهم وعن «ثورة» تخصهم، وفي الوقت نفسه قادة أجهزة الدولة المختلفة أصبحوا الآن في مواجهة وجودية مع سلطة الإخوان. عودتها تعني نهايتهم أو سجنهم، على الأقل.
آخر ما يفكر فيه هذان الطرفان اللذان يتواجهان الآن هو حقوق الإنسان والحريات الشخصية والعامة.
التجمعات المنظمة التي يقف وراءها أكبر تنظيم في مصر يحدث فيها يوميًا الاحتجاز والتعذيب لكل من يُشتبه في كونه «دخيلًا»، وأجهزة الدولة تعمل كما اعتادت أن تعمل، وكما تركتها سلطة الإخوان تعمل في خدمتها.
ورغم كل ولولة الثوار المزيفين أعداء حقوق الإنسان «فين بتوع حقوق الإنسان!» إلا أن منظمات كثيرة تسعى لتوثيق كل ما يحدث وتطالب أجهزة الدولة بأن تكون مثالية وأن يتوقف فلول الإخوان عن ممارسة العنف والتحريض عليه واللعب بورقة الطائفية، ولكن في النهاية ولولة فلول الإخوان هدفها هو طلب الدعم لعودة سلطتهم -لا حقوق الإنسان ولا يحزنون- ولذلك يأتي تعاونهم فاترًا مع «المنظمات العلمانية» المصرية وساخنًا جدًا مع المنظمات الدولية الكافرة، لأن طلب الدعم الدولي لعودة سلطتهم ورقة مفيدة.
في النهاية، صراخ الثوار المزيفين «أين حقوق الإنسان!» هو في جانب منه محاولة استغلال الصورة المزيفة الأولى، وإيهام الناس أنهم انحازوا لصورة مزيفة، «ثُرتم علينا من أجل عودة دولة لا تحترم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد تم خداعكم!». وكشف الصورة المزيفة الأولى – راجعها في أول المقال– والصراخ أنها مزيفة، هدفه أن تدفع الناس لتبني الصورة المزيفة الثانية «نحن ثوار أحرار نواجه هذه الدولة الفاسدة»، ولذلك فإن مسار 30 يونيو هو مسار معاكس تمامًا لرغبتكم في ضمان حرياتكم وحقوقكم.
موقفي ومازال هو ضرورة تجاوز الصورتين المزيفتين. التقدم على طريق 30 يونيو خيار سليم تمامًا ومؤسف جدًا وتكاليفه عالية جدًا،
لكن بديله هو أن يكون الطرفان البشعان في جانب واحد ضدنا، وتوطيد سلطة ثوار مزيفين سلطويين طائفيين غير مهتمين بالحرية ولا بديمقراطية ولا حقوق إنسان على أجهزة دولة لم تتعلم أصلًا أن تهتم في أثناء عملها بضمانات ديمقراطية ولا حريات ولا حقوق إنسان. كابوس كامل.
طريق 30 يونيو هو الطريق الأقل أسفًا رغم كل الابتزاز، وأسفه القادم لن يخففه إلا ثوار حقيقيون يحاولون فعلًا أن يسيروا في اتجاه الحرية وضمان حقوق الإنسان لكل الناس، وليس فقط للولولة وكتكتيك لاستعادة السلطة، وكونهم في «موقف واحد» في 30 يونيو ضد سلطة الإخوان، فهذا لا يعني أنهم سيحبون أن يفرحوا بوجودها كما هي في كل موقف قادم بدلًا من إصلاحها.
بعض هؤلاء الآن، يا عدوي السلطوي الإسلامي، رغم أن أجهزة هذه الدولة تحقق رغبتهم في الخلاص من قرف سلطتك إلا أنك تراهم الآن منخرطين في خلاف عنيف، بسبب تعامل أجهزة الدولة معك ومع الاعتصامات والحشود المؤيدة لسلطتك المقرفة.
ربما لأن كثيرًا من هؤلاء- ممن تسميهم «الانقلابيين العلمانيين أعداء المشروع الإسلامي»- لا يفكرون في «سلطتهم» ولكنهم يفكرون بالفعل في مجتمع يتسع لحرية وحقوق للجميع.
أنا بلا تردد كنت وسط حشود 30 يونيو التي أرادت تحطيم سلطتك والآن بلا تردد ضد أي مغامرة للسماح بعودة سلطتك، ولكن في الوقت نفسه أحب أن أكون من هؤلاء الناس المشغولين بسلامتك الشخصية رغم رغباتك الانتحارية، ويحاولون الوصول لنقطة توازن صعبة وربما تكون مستحيلة، لأنك قررت هذا.
إما أن تفهم هذا وتتوقف أن ترى نفسك بطلًا نقيًا في مواجهة أشرار كما في صورك المزيفة، وإلا يا عزيزي السلطوي الإسلامي أو المؤيد له بالروح وبالدم، أنت مضطر هذه المرة لأن تختار بين خيارات صعبة، لن يخفف أسفها محاولتي الاهتمام بحقوق الإنسان وسط المعركة ولا ابتزازك الناس بها. فإما تكتفي بأن «تموت بغيظك» وتترك أوهام عودة سلطتك، وإلا فأنت مضطر أن تواجه هذه الأجهزة التي تسامحت مع فسادها لأنها كانت في ظهرك وتدعم سلطتك، فإما أن تنتصر انتصارًا ثوريًا وتُخضعها لسلطتك مرة أخرى، وإلا ستواجه قدرتها على القتل والبطش واستهتارها بكل ما لا تهتم به حقًا من حقوق الإنسان وهذا الهراء الذي ليس جزءًا من همك، ولذلك وبكل أسف.. ستموت.