ثلاثية الخوف والرعب والإرهاب، هى ما يسيطر على منطقة شرق العريش.. وكأنك بهذه الثلاثية سترد رئيسا معزولا إلى مقعده. أو ستُعيد شريعة، حكمت سنة كاملة، دون أن نرَ لها ملمحًا أو نعرف لها أولًا من آخر.. هل صرتُ كائنا ينشر الكآبة حوله؟ أسأل نفسى، التى لا ترى غير العنف الذى ينشره الإرهابى على الأرض. والأباتشى التى تطلق صواريخها من السماء.. «يقول البعض إن ثمن الصاروخ الواحد ١٠٠ ألف دولار».. ابحث عن سؤال وراء العنف.. عن فكرة.. عن هدف.. فلا يطالعنى سوى الخواء.. «سيبك من حكاية إقامة إمارة إسلامية فى سيناء.. فهذا كلام لا يستحق اللعاب الذى يستهلكه الواحد فى مناقشته».. الخواء هو سبب أحاديث المؤامرة: المخابرات وراء العنف «يقول واحد».. بل الموساد وراء العنف «يقول ثان».. أفكر فى الرد. ولكن الكلام يصل إلى حلقى فيعود إلى جوفى قبل أن أتفوه به.. «كثيرا ما أحس بأن الكلام خسارة».. الفاشية بتمشى على حديثين، حديث المؤامرة وحديث الكذب.. والحديثان لا سبيل لمناقشتهما.. أيضًا الحديثان لا يمشيان إلا فى البيئات التى تعانى من الخواء.. مثلا: لا أشك فى إخلاصه، إلا أننى قضيت ليلة كاملة أحاول أن أقنعه بأن العنف الذى يرج منطقة شرق العريش، كل ليلة، سببه الإرهاب. بينما هو يقول، المخابرات وراء العنف.. وحين افترقنا كان ريقى ناشفا، بينما ظل حديث المؤامرة يهيمن على رأسه.
٣٠ شهرا والشباب يصرخون، الشاطر يبنى جيشا موازيا للجيش المصرى فى سيناء.. ويقوم بتمويله من عمليات التهريب إلى غزة.. دون أن يسمع أحد.. دون أن يشوف أحد.. دون أن يناقش أحد.. وكأنهم يتكلمون مع الفراغ.. «وهل يوجد غير الفراغ؟».. إنه الفراغ نفسه اللى اليوم الأباتشى تحلق فى السماء لتملأه بوميض صواريخها.. صديقى الشاعر سامى سعد، على صفحته على «فيسبوك» يكتب: أمضيت ساعتين وأنا أفكر: كيف أحمل فنجان القهوه دون أن تهتز يدى؟ وأصل به إلى قائد الأباتشى، وحين عجزت عن الحل، شربته غاضبا.. انتهى ما كتبه الشاعر.. أما أنا فقد تخشبت أصابعى على الكى بورد فلم أقدر أن أعلق: ومنذ متى يا صديقى كانت الأباتشى هى الحل؟!.. الأباتشى بصاروخها تقتل الإرهابى.. لكن من يقفل الماسورة التى تضخ كل يوم إرهابيين جددا.. يا سامى، لو كانت الأباتشى هى الحل، لحلت المشكلة من سنة ٥٤.
سيناء «التى أعرف» حالة غير شكل.. مثلا: فى سيناء كما فى كل المناطق الفقيرة والعشوائية والتى لا يأتى منها غير الهم، وفق حسابات الأفنديات، لا ينظرون للقضاء. هو عندهم قضاء فاسد وظالم ومجرم ومرتش.. وأبدا لن يكون عادلا فى يوم من الأيام «وهو يكرههم لأنهم بدو.. هو عنصرى ضدهم لأنهم بدو فحسب».. تقول للواحد، هو فاسد لأنه غير مستقل. فتجد نفسك داخلًا فى حسبة بورما.. بل هو فاسد.. فاسد وخلاص.. ولا أمل أن يكون صالحًا أبدا فى يوم من الأيام.. يعنى فاسد بطبيعة تكوين الدولة وليس بطبيعة تكوينه هو.. تحكى لهم حكاية حقيقية من حكايات القضاء فى الأربعينيات حين كان أكثر استقلالا. وكيف كان عادلا.. فلا يلتفت الواحد منهم لحكايتك.. ربما واحد أو اثنان يتقبلونها على أنها كانت استثناء.. الغالبية ترفضها لأنهم لن يستعيضوا بالحكايات عما يرونه بأعينهم.. بالأحرى عما لم يروا غيره.. تكلمت عن القضاء كنموذج، إنما رؤيتهم للدولة كلها أقرب للرؤية الثورية الجذرية.. مع فارق الثوار بيطرحوا بديل.. بينما هم لا يطرحون أى بديل، ببساطة لأنهم لا يعرفون.. هم يرونها دولة فرعونية والظلم والإجرام فى تكوينها.. هم لا يريدون ولا ينتظرون منها أى خير.. كل ما يفكرون فيه، البحث عن أداة توقف تغولها عليهم.. لذا حين لوح لهم «من لوح» بالشريعة راحوا للشريعة على طول.. بعضهم صدق.. وغالبيتهم قالت، نجرب «المقصود بالتجريب هنا، تجريب من ينادى بتطبيقها وليس تجريب الشريعة نفسها.. الشريعة مقدس متعال على التجريب».. واحد منهم قال لى: لو عندهم ١٠٪ دين «يقصد الإخوان» هم أحسن من القدام «يقصد الدولة القديمة».. حين كنا فى السجن، كان فيه واحد قاعد جنبى فى الزنزانة، بعد صمت طويل، صرخ: يا الله أش اللى وده يطلعنا من هذا.. كانت الصرخة تعبيرا واضحا عن درجات من الظلم فى طبيعة تكوين الدولة لا قدرة لأحد من عوالم الأرض على التصدى لها.. «كنا ساعتها محبوسين فى قسم ثانى العريش، إنه القسم نفسه الذى يتعرض للضرب كل ليلة تقريبا».
ملاحظة، حين أكلمهم عن قضاء مستقل وعن دولة مؤسسات، تلمع فى رؤوسهم دول متقدمة.. بعدها يعلق الواحد منهم: انت بتحلم.. ما تقوله لا يمكن أن يصل مصر فى يوم من الأيام.. فرعونية الدولة المصرية هى كل ما يسيطر على رؤوسهم وهى «الفرعونية» التى لم يروا غيرها.. فى سيناء، أنتم قتلتم الأمل.. وسنحتاج إلى كثير من الجهد والعرق «وربما الدم» لنعيد الحياة إلى ما قتلتم.