(1)
عُقبة لم يجد في جيشه رجلاً رشيداً.
عقبة بن نافع كان قائد الجيش الإسلامي الذي فتح ليبيا والجزائر وتونس والمغرب، انتصر عشرات الانتصارات، حتى وصل إلى المحيط الأطلنطي، ودخل بفرسه إلى الماء قائلاً كلمته التي أصبحت من مأثورات التاريخ الإسلامي «اللهم إن كنت أعلم أن خلف هذا البحر أرضاً، لخضته في سبيلك».
لكن التاريخ يحفظ أيضاً عبارة أقل شهرة قالها سلفه موسى بن نصير...
كان جيش عقبة محدود العدد، انتصر بسبب سرعته وخبرته في حرب الصحراء، وتشتت أعدائه الرومان والبربر، لكنه لم يكن يترك حاميات كافية في المدن التي فتحها، وطبعاً لم يستقر بما يكفي لكسب ولاء السكان أو دخولهم الإسلام، بل إن عقبة خالف وصية أبوالمهاجر دينار، القائد الذي سبقه، بأن يحسن معاملة أمير البربر كسيلة الذي أسلم وأصبح من معاوني أبوالمهاجر، وبدلاً من ذلك قام بسجن أبوالمهاجر نفسه، وأهان كسيلة حتى صمم على إجباره أن يذبح له بيده شاة وهو عمل الخدم، ما دفع أبوالمهاجر ليقول «كان رسول الله يؤلف قلوب أكابر قريش وهو ظاهر عليهم، فما بال هذا لا يؤلف البربر وهو في أرضهم؟».
وبينما عقبة في طريق عودته إلى القيروان، عاصمته التي بناها في تونس، اجتمعت عليه قبائل البربر بقيادة كسيلة، وتم قتل عقبة مع جنوده، واستعاد البربر كل بلادهم بما فيها مدينة القيروان نفسها.
قال موسى بن نصير تعليقاً على قصة عقبة: «لقد كان غرر بنفسه حين وغل في بلاد العدو، والعدو عن يمينه وعن شماله وأمامه وخلفه، أما كان معه رجل رشيد؟».
فيما بعد سيقود موسى نفسه حملة طموحة شبيهة بحملة عقبة، سيستعيد شمال أفريقيا ثم يفتح الأندلس - إسبانيا والبرتغال الآن - ثم ينوي استكمال انتصاراته بعبور جبال البرانس، ليحقق حلم فتح رومية - روما عاصمة إيطاليا الآن - مروراً بفرنسا!
لكن يداً قوية امتدت هذه المرة لتوقف اندفاع موسى كي لا يلقى مصير سلفه .. كانت يد حبيش الشيباني الذي أخذ بعنان فرسه قائلاً «أيها الأمير، إني سمعتك وأنت تذكر عقبة تقول: لقد غرر بنفسه وبمن معه، أما كان معه رجل رشيد؟ وأنا رشيدك اليوم، أين تذهب؟!».
الرجل الرشيد هو من يوقف زحف جيشه في الوقت المناسب، حتى لو كان يرى أن جيشه على الحق، ومهما تصاعدت هتافات الجنود، حتى لو كانوا شجعاناً أبطالاً.
الرجل الرشيد يعرف كيف يحتوي أعداءه، أو على الأقل كيف يأمن شرهم، بأقل الخسائر الممكنة.
الرجل الرشيد يعرف أن الرأي قبل شجاعة الشجعان.
(2)
عزيزي الرجل الرشيد الإخواني ..
تحية طيبة وبعد،
لنفترض أولاً أننا اتفقنا على رؤيتك للواقع كاملة:
مرسي رئيس رائع، لكنه تعرض لمؤامرة كبرى خوفاً من نجاحه في تحقيق النهضة الشاملة والاستقلال الوطني، تحالف عليه فيها الجيش، والشرطة، والمخابرات، والقضاء، وكل مؤسسات الدولة الفاسدة من الوزارات إلى أصغر وحدة محلية، والإعلام، والأحزاب المدنية، والقوى الشبابية الثورية، والأزهر، والكنيسة، وحزب النور، ومن الخارج أمريكا وإسرائيل والسعودية والإمارات.
أما الحشود في الشارع فأنت - كرجل رشيد - تعرف طبعاً أنها ليست مجرد فوتوشوب من خالد يوسف كما يردد بعض أنصارك، هي حشود حقيقية لكنها ليست الشعب المصري الأصيل، بل هي عبارة عن أقباط، وبلطجية، وعساكر بملابس مدنية، وعلمانيين أعداء المشروع الإسلامي، وشباب ثوار خانوا ضمائرهم من فرط حقدهم على المشروع الإسلامي «برضه» أو لأنهم مخدوعون، بالإضافة طبعاً إلى فئة من الشعب العادي سواء مغيبين ضحك عليهم الإعلام المضلل، أو أنهم أصلاً فلول، ولا تنسى هنا أن شفيق حصل على 49%، أي أن «الفلول» بهذا التعريف هم 12 مليون مصري، وفيهم الكفاية بمفردهم أصلاً لملء كل ميادين مصر!
حلو كدة؟
إذن هل يمكن لو سمحت أن تطرح لنا رؤيتك للمستقبل لمواجهة كل هذه الأخطار سواء عاد مرسي أو لم يعد؟
السيناريو الأول: سنخوض معاركنا معهم (مرسي راجع)
إذا انطلقنا من الفرضية القصوى أن التصعيد طويل الأمد في الشارع سيؤدي بكيفية ما، وربما بثمن من الدماء، إلى عودة مرسي رئيساً، كيف ترى أنه سيمكنه الحكم لباقي فترته 3 سنوات في مواجهة كل أعدائه بالداخل والخارج، وفي مواجهة مشاكل اقتصادية واجتماعية متفاقمة؟
ما هو الحل لمؤسسات الدولة المعادية؟
هل سيكتفي بإقصاء عدد محدود من القادة، وتبقى المؤسسات القديمة على عدائها تعطل عمله، وتتحين الفرص ضده كما يتخوف البعض؟
أم هل سيشكل محاكم ثورية وحرس ثوري وقوانين ثورية، كبديل عن القضاء والشرطة الفاسدين، ليتم غلق الإعلام المضلل ومحاكمة الفاسدين والبلطجية ثورياً، لتتكرر تجربة إيران كما يتخوف البعض الآخر؟ هل تحتمل مصر نتائج ذلك داخلياً وخارجياً؟
من المعروف أن إصلاح مؤسسات بحساسية وقوة الشرطة والقضاء والجيش هي عملية معقدة تحتاج «توافقاً مجتمعياً» ينبني على أرضية من الثقة بين كل شركاء الوطن، كي لا يرفض أحد - من خارج الأجهزة أو داخلها - التغيير بحجة أن غرضه هو خدمة النظام الحاكم الجديد (الأخونة نموذجاً). هل ترى أن هذا «التوافق» من الممكن استعادته في ظل رئاسة مرسي 3 سنوات أخرى؟ أم أن هناك حلاً مناسباً آخر تراه غير هذا التوافق المستحيل؟
ثم ماهو الحل المطروح لمواجهة فئات الشعب الفاسدة أو المضللة التي ترفض عودة مرسي - نعيد التذكير بأن شفيق، أسوأ منافس ممكن، نال 12 مليون صوت! - ومن المتوقع أن تملأ حشوده المشحونة بالإحباط والغضب الشوارع فور عودته؟.
هذه الأسئلة يجب أن تعلن إجاباتها المحددة الواضحة منذ الآن لمؤيديك ومعارضيك، ليعرف الجميع المستقبل المنتظر، فلا يفاجأ أي منهم بما لا يتوقعه، مما قد يسبب ما لا تحمد عقباه حينها.
السيناريو الثاني: الحل السياسي (مرسي مش راجع)
إذا كانت المشكلة - كما يركز الخطاب الإخواني الحالي - ليست في شخص مرسي، بل في أن الانقلاب أسقط الشرعية والديمقراطية والدستور، وبدأ العودة إلى دولة مبارك بما فيها من قمع واعتقالات وسفك دماء الأبرياء وغلق قنوات ومصادرة للحريات ...إلخ، وإذا كانت مشاكل عودة مرسي واقعياً واضحة، فلماذا لا يتم طرح مطالب تشمل كل هذه الملفات بأي سقف سياسي مختلف عن «عودة مرسي ليكمل فترته الشرعية» ؟!
أنت - كرجل رشيد - تعرف أن هناك قطاعات من الشعب والثوار ترفض حكم العسكر وحكم الإخوان، وأن هناك بالتأكيد مسؤولين في كل أجهزة الدولة يريدون الاستقرار وهدوء الأوضاع، لكن هذه الفئات لن تقبل أبداً فكرة عودة شخص مرسي 3 سنوات خاصة أنها تتخوف من دعاوى الانتقام المتطايرة من بعض أنصاره - ومن قبل الانقلاب أصلاً على طريقة «اغضب يا ريس» - فما المانع من الانتصار للمبدأ مادام هو الأهم، ومادام ذلك يوفر أرضية مشتركة أكبر؟
الخيارات التي تطرح حلولاً سياسية عديدة منها مبادرة د.سليم العوا - التي رفضها الطرفان بالمناسبة - عن عودة الدستور وتفويض رئيس وزراء مؤقت يدعو لانتخابات برلمانية ورئاسية، أو أي حل آخر سواه يرتكز على الاحتكام للشعب بأسرع وقت.
لا ثقة ولا ضمان إلا وجودكم في الشارع؟ كلام منطقي، لذلك يمكنك إرفاق أي اتفاق سياسي من أي نوع بأنك ستبقى في الشارع حتى بداية تنفيذه عملياً.
عزيزي الرجل الرشيد الإخواني ..
لو كنت ستستمر في أسلوب اسقاط أحداث السيرة النبوية على ما يحدث الآن، فبالتأكيد هذه ليست غزوة بدر .. ربما أقرب التشبيهات هي صلح الحديبية الذي تنازل فيه الرسول عن بعض الأمور لقريش رغم رفض الصحابة، أو غزوة مؤتة التي انسحب فيها خالد بن الوليد بالجيش لينقذ جنوده من مواجهة غير متكافئة.
عزيزي الرجل الرشيد الإخواني ..
أنت تعرف طبعاً الحقبة السوداء التي عاشتها مصر في التسعينيات، حين تم سحق كل الحريات والحقوق وغلق المجال الاجتماعي والسياسي تماما - للإسلاميين وغير الإسلاميين - بحجة مكافحة الإرهاب، كما تذكر طبعا الحقبة الناصرية. دائماً صيحات «لاصوت يعلو فوق صوت المعركة» تضمن تأييداً شعبياً للسلطة على طريقة «افرم افرم يا سادات»، والفرم لا يميز بين من يقف في طريقه. لا نريد أن نعود إلى هذه الحقبة، فلا تمنح عدوك هذه المعركة التي يتمناها.
عزيزي الرجل الرشيد الإخواني..
هناك دماء مصرية غالية تسيل - بما فيها دماء أعدائك غالية برضه والله! - وهناك أخطار حقيقية تهدد مستقبل هذا البلد، وإذا كان الطرف الآخر لا يتحلى بأي قدر من المسؤولية الوطنية، فتحمل أنت هذه المسؤولية من أجل وطن لا يحتمل أن يلغي نصف الشعب إرادة ووجود نصفه الآخر. خليك إنت العاقل يا ... رشيد!
(3)
عزيزي الرجل الرشيد العسكري، سواء كنت من الجيش أو من مؤيديه على طول الخط ..
تحية طيبة وبعد،
لنفترض أولاً «برضه» أننا اتفقنا على رؤيتك للواقع كاملة:
قادة الإخوان فشلو في الحكم لأنهم يتسمون بالغرور والجهل، ولا يفكرون إلا في مصلحة تنظيمهم متوهمين أن هذه هي نفسها المصلحة الوطنية، لذلك لم يتمكنوا من تحسين معيشة الشعب في كل الملفات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، مما أغضب الشعب عليهم، وأيضاً أغضبوا الجيش بدوره حين فرطوا في الأمن القومي المصري بتحالفهم مع الإرهابيين من السلفية الجهادية خاصة في سيناء، وتحالفهم مع قطر وحماس، فضلاً عن أعمال العنف التي قام بها أعضاء الجماعة أنفسهم كموقعة الاتحادية وغيرها.
خرج الشعب في ثورة مجيدة يوم 30 يونيو، حيث تم أعظم حشد في تاريخ العالم، وما كان من الجيش إلا أن يستجيب لنداء الشعب كما سبق أن استجاب في ثورة 25 يناير وخلع مبارك.
لكن الإخوان وأنصارهم لم يستسلموا لإرادة الشعب وللأمر الواقع كما استسلم مبارك، بل أصروا على المقاومة بحشودهم الهائلة في الشارع في اعتصاماتهم ومسيراتهم، التي تغلق الطرق ويندس في بعضها مسلحون، وتتعمد الاحتكاك بقوات الأمن مما يضطرها لإسقاط ضحايا منهم، يتاجرون بهم إعلامياً لاجتذاب تعاطف وشعبية المصريين، وإحراج مصر دولياً.
أنت - كرجل رشيد - تعرف أن مؤيدي مرسي الخالصين هم على أقل تقدير من منحوه أصواتهم في الجولة الأولى وهم حوالي 25%، أي 5 ونصف مليون صوت، وفيهم وحدهم الكفاية لملء الميادين، واستمرار أعمال العنف والفوضى.
حلو كده؟ هتحلها إزاي بقى؟
السيناريو الأول: القبضة الدامية (افرم يا سيسي)
إذا كان الخيار هو الحل الأمني، وستقوم بفض الاعتصامات والمسيرات بقوة الشرطة والجيش، فيجب أن تستخدم عنفاً ساحقاً سيؤدي - من واقع تجاربنا السابقة - إلى سقوط مئات القتلى، خاصة مع احتمال مقاومة المعتصمين بالسلاح الذي تقول تقاريرك إنه موجود معهم، مما سيستفز قوات الأمن أكثر، بالاضافة لاعتقال الآلاف منهم.
يجب عليك حينها أن تجيب على هذه الأسئلة:
بما أن تجربة الأعوام الثلاثة الماضية أثبتت أن الدم يجذب المزيد من الأنصار والمتعاطفين، ويزيد من تمسك فريق الضحايا بقضيتهم التي يكسبها الدم قدسية في عيونهم أكثر وأكثر، فعلى الأرجح سيعود أنصار مرسي للتظاهر والاعتصام بكل حماس حتى بعد فض اعتصامي النهضة ورابعة، هل يمكن استمرار نفس الأسلوب الساحق لفترة طويلة؟
وفي النهاية أنت لا تواجه فضائيين أو أجانب - نعيد التذكير أن التصويت لمرسي في الجولة الأولى كان 25% - هل يمكنك في حالة استمرار السحق تحمل الكُلفة الداخلية، من تعاطف قطاعات من الشعب والنشطاء والسياسيين، وأيضاً الكُلفة الخارجية من الضغط الدولي؟
وعلى المدى الطويل: تمنح الدماء قيادة الإخوان الحالية فرصة ذهبية، لتجدد تماسك التنظيم الصلب حول قيادته الفاشلة، واجتماعه على قلب رجل واحد لمقاومة المحنة، مما يعني أنهم لن يتغيروا، ويعني أيضاً أنهم - مع استثمار تعاطف الشعب كأيام مبارك - قد يعودوا بالانتخابات بعد أعوام، لتواجه نفس المشكلة.
عزيزي الرجل الرشيد العسكري..
حين تتعامل مع كل مؤيدي مرسي على أساس أنهم جميعاً كالإرهابيين في سيناء، فستدفع بعضهم فعلاً في النهاية للتحول إلى ذلك النموذج .
«العنف يولد العنف» جملة مبتذلة لكن حقيقية جداً.
السيناريو الثاني: الحل السياسي (اهدأ يا سيسي)
الضربة الانتخابية لا الأمنية هي الحل!
هي الحل سواء على المدى القصير لتستقر الأوضاع وينتهي ادعاؤهم امتلاك الشرعية الشعبية والدستورية، أو على المدى الطويل لتفكيك الشكل الحالي للتنظيم، ودفع بعض أفرادهم لطرح سؤال: ما الذي أوصلنا إلى هنا؟
تذكر هنا أن 80 عاماً من القمع والتشويه، وكل إعلام نظام مبارك في عهده لم يتسبب في تدهور شعبية الإخوان، كما تسبب عام واحد فقط في السلطة.
ليس الخيار الوحيد هو خضوعهم الكامل دون قيد أو شرط لخريطة طريقك . نتذكر هنا أن مرسي ظل يدعو المعارضة للحوار بسقفه وشروطه الخاصة، ثم يتعجب من عدم استجابتهم ويلومهم على تعنتهم، فلا تكرر هذا الغباء!
الحل السياسي يعني التفاوض، يعني تنازل كل طرف عن بعض ما يريد حتى لو كان تنازلاً مؤلماً .. المهم أن تجعل الأساس هو الدعوة لتصويت ما بأسرع وقت أيا كان هذا التصويت.
ولو حتى من ناحية نفعية بحتة انتهز فرصة أنهم الآن في أضعف حالاتهم الانتخابية، بدلاً من أن تمنحهم فرصة إعادة جمع بعض شعبيتهم وتنظيمهم.
عزيزي الرجل الرشيد العسكري..
هناك دماء مصرية غالية تسيل - بما فيها دماء أعدائك غالية برضه والله! - وهناك أخطار حقيقية تهدد مستقبل هذا البلد، وإذا كان الطرف الآخر لا يتحلى بأي قدر من المسؤولية الوطنية، فتحمل أنت هذه المسؤولية من أجل وطن لا يحتمل أن يلغي نصف الشعب إرادة ووجود نصفه الآخر. خليك إنت العاقل يا ... رشيد!
(4)
عزيزي الرجل الرشيد الثوري
تحية طيبة وبعد،
اقرأ كلتا الرسالتين وفكر كثيراً، واعلم أن مكانك ليس مع كلا المعسكرين.
اتخذ الخيار السياسي أو غير السياسي الذي تريده، لكن لا تنسى أن تسأل نفسك دائماً إن كان موضعك يخدم أهداف الثورة الأولى: عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية.
(5)
وقُل: يا رب ضاقت
ولم يبق إلاك
والأمر لك.