من الذى يحدد المسموح والممنوع؟ كان الرئيس شخصيا، فلا أحد آخر من الممكن أن يتحمل المسؤولية، استمعت إلى حوار قديم لوزير الإعلام الأسبق د.عبد القادر حاتم قال فيه إن أغنية أم كلثوم «راجعين بقوة السلاح» التى ترددت بعد هزيمة 67 مباشرة تدخل جمال عبد الناصر وحذف تلك الشطرة التى تغنى فيها «جيش العروبة يا بطل الله معك ما أروعك ما أشجعك ما أعظمك» وجد فيها عبد الناصر مبالغة لا تليق بجيش مثخن بالجراح، ولم تذع هذه الشطرة مع الأغنية إلا بعد انتصار 73.. وحكى عادل إمام أكثر من مرة أن حسنى مبارك هو الذى وافق على تصوير فيلمه «السفارة فى العمارة»، حيث لم يجرؤ أى مسؤول على التصريح بالسيناريو تحسبا من غضب الأجهزة، الآن هل نظل فى انتظار الرئيس ليحدد الجرعة الممكن السماح بها من ضوء الشمس وبعدها يشيش الشيش.
مصر القادمة ليست هى مصر التى عشناها بعد 25 يناير فهذا مستحيل، وهى أيضا ليست مصر التى عشناها قبل هذا التاريخ فهذا أيضا مستحيل، الإعلام هو «ترمومتر» البلد تستطيع أن تقيس الحرية بتلك المساحة التى من الممكن التحرك خلالها، كان الإعلام المصرى الرسمى والخاص تحت السيطرة تماما حتى 25 يناير تستطيع أن تضيف فقط تعبيرا مع اختلاف الدرجة.
الإعلام الخاص فى أثناء ثورة 25 يناير وطوال الـ18 يوما تحرر من بعض القيود، ولكنه لم يسترد حريته إلا فقط يوم 11 فبراير مع تنحى مبارك، إلا أنه وبعد ثورة 30 يونيو أرى فى الأفق بوادر قيود، هناك مخاطر تهدد الأمن القومى، وفى هذه الحالة سوف تتقلص مساحة الحريات التى انتزعناها فلا صوت يعلو فوق صوت الأمن، ليرفع الجميع شعار «الضرورات تبيح المحظورات» سننتقل من مرحلة الباب المفتوح إلى الباب الموارب، الكثير من الإجراءات الاستثنائية ستجد من يدافع عنها، ورغم ذلك لن نتوقف عن الغناء للحرية ألم يقل عبد الوهاب فى عهد عبد الناصر «يا نسمة الحرية ياللى مليتى حياتنا»، سنجد دائما مبررا لقصف أقلام أو إغلاق صحف وتسويد قنوات، سيوضع من يعترض فى قائمة إما عميل لأعداء الوطن وإما خلية نائمة وإما فى أحسن الأحوال إنسان مغيب عن الواقع يعيش فى عالم مثالى لا يدرى بالضبط ما الذى يجرى فى الحياة.
ذاق المصريون طعم الحرية المطلقة وعليهم الآن أن يتعودوا على جرعات خفيفة منها، المصريون أصبحوا الآن يبحثون عن الأمان حتى ولو كان ثمنه الحرية، صرنا نعيش معركة حياة أو موت، فصيل من الإخوان يريد أن يحكم ويهدد بحرق الأخضر واليابس لو لم تنفذ إرادته، الأغلبية تواجه أقلية عددية، ورغم ذلك فإننا نتحدث ليس عن ألف من المصريين ولكن عن ملايين، لا أحد يدعى أنه يعرف يقينا العدد ولكن التخلص منهم مستحيلا والإقصاء مستحيلا، لا يمكن أن يعودوا مرة أخرى جماعة محظورة لا يعنى ذلك بالطبع الاستسلام لشروطهم ولا لتلك المبادرات التى طرحها عدد من التيار الإسلامى لأنها تنطلق من نقطة خاطئة، وهى أن ما حدث انقلاب لا إرادة أغلبية، فى ظل شراسة المعركة علينا أن ننتظر قيودا قادمة على الإعلام سيواجهها مما دأبنا على وصفهم بالنخبة بنصف مقاومة أو بغض الطرف تماما، ستسارع الدولة بإصدار تشريعات لتنظيم الإعلام واللجنة المنظمة، والتنظيم يعنى فى العادة إغلاق أو فى الحد الأدنى التقييد على من يخالف النظام الحالى، وهكذا سيغلق الإعلاميون نوافذهم بأيديهم لا بيد عمرو.
إجراءات عديدة قادمة يتم التمهيد لها، لا أستبعد أن نقطة الانطلاق هى إغلاق قناة «الجزيرة»، بحجة أنه صار مطلبا جماهيريا، ألم ينادى متظاهرو التحرير بذلك، صحيح أن «الجزيرة» تتدخل فى الشأن المصرى وهى غير محايدة فى نقل الصورة هذه حقيقة، ولكن الحقيقة أيضا أن القنوات الأخرى الخاصة ليست محايدة تماما، مات زمن الحياد، ويبقى السؤال من الذى سيحدد جرعة المسموح والممنوع؟
الكرة ستنتقل إلى ملعب المثقفين هم الذين ستطلب منهم الدولة أن يلعبوا هذا الدور ستصبح مسؤوليتهم «تشييش الشيش»!!