شىء طبيعى جدا أن تتعلق جماعة الإخوان بمبادرة المصالحة، أو بمعنى أصح بالقشة التى ألقاها الدكتور سليم العوا فى بحر الأزمة الحالية المتلاطمة الأمواج، لعلها تنقذها من الغرق فى «المحاسبات القانونية» التى تنتظر عددًا كبيرًا من قياداتها، أيديهم ملطخة بالدم، ليس من معارضيها فقط، بل من شباب الجماعة، دفعوا دروعا بشرية فى الطرق والمسيرات وعلى الكبارى والاشتباكات، ليستعدوا بعض الأرباح التى خسروها فى ٣٠ يونيو. والدكتور سليم العوا لا تعنيه مصر بقدر ما تعنيه الجماعة وعودتها إلى صدارة المشهد السياسى، بعد أن أخرجها المصريون منه، لهذا فطرْح مبادرة للمصالحة، وهو رجل قانون، بمثابة فخ عظيم لنا. المدهش أن الدكتور سليم العوا يتجاهل ما حدث فى مصر فى ٣٠ يونيو، و٢٦ يوليو، ويدور على إرادة أكثر من ثلاثين مليون مصرى، ويتحدث كأن شيئا لم يكن، وأول بند فى مبادرته يستند إلى المادتين «١٤١» و«١٤٢» من الدستور المعطل، واستناده إليهما يعنى ببساطة عودة الرئيس المعزول المتهَم الدكتور محمد مرسى إلى سدة الحكم، ثم يفوض سلطاته إلى رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة يتم التوافق عليها فى أول جلسة سياسية! بالمناسبة مبادرة سليم العوا تحمل أيضا اسم المستشار طارق البشرى، والمستشار طارق البشرى هو أول من أسهم فى انحراف مسار ثورة ٢٥ يناير من طريق «الدستور أولا» إلى انتخابات برلمانية أولا، وهو الطريق الذى ألقى بنا إلى هاوية الأزمة التى تحيط بنا من كل جانب الآن، وهو الذى وصف الإرادة الشعبية بأنها انقلاب عسكرى متكامل الأركان، مع أن الغرب لم يجرؤ أن يصف حشود عشرات الملايين من المصريين بهذا الوصف، واخترع وصفا جديدا هو أقرب إلى العلم «انقلا-ثورة»، أى هو ثورة وانقلاب معا، فإرادة الناس الرافضة لوجود الرئيس وجماعته لم يكن هناك سوى مؤسسة وحيدة فى مصر قادرة على تنفيذها هى القوات المسلحة، ولم يكن الناس قادرين على الصبر ثلاث سنوات على خطأ اختيارهم للرئيس مرسى بصندوق الانتخابات فنزلوا يسحبون منه هذا التعيين. المهم أن البند الأول فى منتهى الخباثة، ويصنع نفقا جديدا يحاول أن يحضر فيه المجتمع، تحت لافتة براقة للغاية، هى «مبادرة للخروج من الأزمة الراهنة»، فإذا بها مصيبة. والمصيبة ليست فى عودة الرئيس المعزول إلى منصبه وتوقيعه قرارا بتفويضات سلطاته كاملة لرئيس وزراء جديد، ولا هروب الرئيس من الوقوف أمام القضاء معلَّقًا فى رقبته اتهامات خطيرة، وإنما هى الوزارة الجديدة التى يتم التوافق عليها فى أول جلسة سياسية، «شوف الكلام الفخ»، أن يتوافق الناس على رئيس وزراء وحكومة فى جلسة واحدة والمسافة بين التيار الدينى كله وبقية الدولة المصرية شاسعة، والخلاف ممتد بدرجة يصعب معها الاتفاق على شخص رئيس الوزراء، ناهيك بالوزراء، ولنا تجربة ساذجة بعد ٣ يوليو فى الوصول إلى حكومة الدكتور حازم الببلاوى بمشقة فائقة، وهى لم تنَل أيضا رضا كل الأطراف، بما فيها بعض الأطراف من المؤيدين لعزل مرسى. باختصار يبدو المطلوب أن يتعطل تشكيل الحكومة الجديدة، أسبوعين ثلاثة وربما شهرًا أو شهرين على الطريقة العراقية بسبب الخلافات على الأسماء، فيبقى الحال على ما هو عليه، رئيس معزول عاد إلى السلطة يبحث عمن يفوته ولا يجد، فيا ترى خلال هذه المدة والتشاورات والأخذ والرد من يكون صاحب القرار فى مصر؟! طبعا.. الرئيس المعزول، وبما أن الدستور المعطل قد عاد، فقراراته دستورية واجبة الاحترام والتنفيذ. ألم أقُل لكم؟ منتهى الخبث، والتذهيب بمصر ومعها المصريون إلى الجحيم، ألم يكن المستشار البشرى مَن الذى وضع خريطة تمكين جماعة من الدولة، وهو على يقين أن المصريين فى حالة ارتباك شديدة واضطراب، وهى حالة يتجه فيها البشر إلى الله يلتمسون منه العون والرحمة، وفى شعب متدين بطبعه وتاريخه، فتكون الفرصة لتشكيل البرلمان والرئاسة لجماعة الإخوان، وصناعة دستور على الهوى والمزاج؟ الأكثر دهشة أن المبادرة تعيدنا إلى المسار الكارثى مرة ثانية، وهو أن الوزارة المؤقتة، إذا تشكلت، تدعو فى أول جلسة لها إلى انتخابات برلمانية فى ستين يومًا، ثم انتخابات رئاسية وفقًا للدستور المعطل العائد للحياة، ثم إجراء التعديلات الدستورية إياها! يا الله! ما كل هذه الوطنية فى حب الجماعة؟!
ألا يستحق الوطن بعضًا من الحب والرضا السامى؟!
وهنا يطرح سؤال بديهى نفسه: لماذا تقبل جماعة الإخوان هذه المبادرة بكل هذا الترحاب؟! أليست عودة مرسى إلى القصر هى كل المراد من رب العباد؟! لماذا هذا التنازل الهائل؟!
ببساطة لأن المبادرة شقت طريقا للخروج الآمن لقادة الجماعة، وأعادتها إلى المشهد السياسى تتحكم وتأمر وتفاضل وتتشرط بين رؤساء الوزراء والوزراء المرشحين، ومَن فى الجماعة سوف يفعل ذلك؟! محمد البلتاجى وعصام العريان وصفوت حجازى وباسم عودة وعصام سلطان وأسامة ياسين القائد العام لكتائب الإخوان، إلخ. كيف إذن نتعامل مع التحريض على العنف والهجوم على المعارضين وقوات الجيش والشرطة؟! نسينا أن نسأل الدكتور سليم العوا والمستشار طارق البشرى: هل بعد قبول المبادرة ستتوقف العلميات الإرهابية فى سيناء أم ستنتظر نتائج التنفيذ؟!
أما حديث الدكتور العوا عن المظاهرات السلمية والاعتصام السلمى فهو كلام لا يستحق الردّ عليه، فالصور والمشاهد والحقائق المجردة كافية بعيدًا عن الأكاذيب!