منذ ثورة 25 يناير، بدأت صورة جمال عبدالناصر تظهر فى ميدان التحرير مع بعض المتظاهرين، وأخذ عدد هؤلاء يتزايد رويداً رويداً، إلى أن استولى تيار الإسلام السياسى على الحكم، فاختفت صور عبدالناصر إلا فى أيدى قلة، وبدأت تظهر صور أخرى نعرفها جميعاً، ونجح هذا التيار نجاحاً كاسحاً فى أن يجعل مصر كلها تنفر منه وتكتشف حقيقته، واستطاعت ثورة الثلاثين من يونيو الماضى أن تقتلع هذا النظام من جذوره وتلقى به إلى غياهب الظلمات، حيث يستأهلون، واستجاب جيش مصر العظيم لشعبه صانع الحضارات وأصدر إعلانه الواضح والرائع بخارطة طريق جديدة، تولى على أثرها رئاسة الجمهورية - مؤقتاً - رئيس المحكمة الدستورية العليا، وشكل الدكتور حازم الببلاوى الوزارة الجديدة.
وفى 23 يوليو الماضى - فى ذكرى هذه الثورة - أذاع رئيس الجمهورية المؤقت خطاباً سياسياً أحسبه أكثر من رائع، وما أظن أن أحداً من رؤساء الجمهوريات منذ أكثر من ثلاثين عاماً ألقى خطاباً فى ذكرى هذه الثورة بهذه القوة، وبهذا التقرير، بل إن الخطاب احتوى إلى جانب المعانى السياسية الكثيرة، أيضاً عمقاً فلسفياً فكرياً، انظر إليه يقول فى فقرة من فقرات الخطاب «نريد أن نفتح صفحة جديدة فى دفتر الوطن، لا حقد ولا كراهية، لا تشويه لمن أعطى ولا تحطيم لمن اجتهد»، وقال: حان الوقت لنبنى وطناً متصالحاً مع الماضى لأجل المستقبل. أتصور أن هذه طريقة فى الخطاب ونكهة فى التفكير جديدة تماماً على الخطب الرئاسية التى اعتدناها فى مثل هذه المناسبات.
وتكلم الرجل عن جمال عبدالناصر، وكيف أنه ورفاقه تجاوزوا حدود الدولة المصرية إلى رحابة العالم الواسع، وكيف أن هذه الثورة العظيمة - ثورة 23 يوليو - والحقبة التى تلتها هى التى فتحت باب الحرية لمصر ودول العالم النامى.
أظن أن هذه اللغة لم نعهد مثلها فى الخطابات التقليدية التى كنا نسمعها ممن كانوا يقال لهم رؤساء جمهورية.
شىء طيب أن تحمل هذه المرحلة التى نحن فيها كل هذا الحنين نحو تلك المرحلة المجيدة، من تاريخ مصر الحديث.
ولا يقتصر الحنين إلى تلك المرحلة على الانبهار بشخصية الزعيم جمال عبدالناصر، وإنما على التوجه نحو العدالة الاجتماعية بالمعنى الحقيقى، من لا يملك قوت يومه، لا يملك إرادته، كذلك الحنين إلى مرحلة الاقتصاد المخطط، إن الخطة الخمسية الاقتصادية الأولى والخطة الاقتصادية الثانية، ومئات المصانع التى أقيمت فى تلك المرحلة الخصبة الرائدة بمعاونة رجال عظام من أمثال عزيز صدقى، هى التى تستحق الحنين وتستأهل المحاكاة.
ومن حق رجال المؤسسة العسكرية المصرية البواسل أن نقدر حقهم ووزنهم فى تاريخ هذا البلد، أذكر حديثاً جرى بينى وبين المشير طنطاوى عقب ثورة 25 يناير، عندما ابتليت بمنصب فى إدارة الدولة تحت ضغط المؤسسة العسكرية، أذكر أنى قلت له يكفى الجيش المصرى فخراً أنه قدم لهذا البلد رجلاً اسمه جمال عبدالناصر، وقد كانت سعادة المشير بالغة بهذه الكلمة، وقال لى بعدها قل ما شئت بعد ذلك فكل ما تقوله مقبول إلى هذا المدى. والذى أعرفه أن المشير طنطاوى يعتبر الفريق أول عبدالفتاح السيسى بمثابة ابنه البكر، وقد سمعت ذلك من أكثر من أحد من رجال القوات المسلحة.
وقد رأيت صورة - لست أدرى مدى صحتها - تصور السيسى وهو طفل صغير يسلم على جمال عبدالناصر.
نشر الصورة - وعدم تكذيبها لا يخلو من دلالة - وكثير من الناس - المواطنين العاديين - يقارنون بين السيسى وجمال عبدالناصر مع اختلاف المراحل التاريخية واختلاف الأدوار.
ومن العجب العجاب أن يقال إنه حدث فى مصر - بعد 30 يونيو - انقلاب جاء بحكم العسكر.
أين هو حكم العسكر؟ رئيس الجمهورية كان رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، ورئيس الوزراء أستاذ قانون وأستاذ اقتصاد، ونائب رئيس الجمهورية هو صاحب نوبل محمد البرادعى، أحد مفجرى ثورة 25 يونيو.
أين هو الانقلاب العسكرى الذى يتحدث عنه السفهاء؟!
أريد أن أقول إننى أكتب هذا المقال مساء يوم الجمعة - 25 يوليو - وإنى لأرجو أن تنزل جماهير الشعب المصرى بكل حشودها وبكل طوائفها وبالمسيحيين قبل المسلمين وبالنساء قبل الرجال، ليقولوا للقائد العام للقوات المسلحة إننا نفوضك، بل نرجوك أن تضع حداً للعبث الذى أدى بمصر إلى الهوان والخراب، أن تضع حداً للعنف الذى أسال الدم المصرى الغالى البرىء.
«السيسى يطلب تفويضاً شعبياً لمواجهة العنف والإرهاب»، والشعب المصرى كله يقول له فوضناك، بل نأمرك باعتبارك الذراع القادرة على أن تتصدى لهذا البغى والعدوان».
والله الموفق، وسيحفظ مصر بإذن الله.