شخصيات عديدة رحلت عن عالمنا قبل ثورة 25 يناير، كثيرا ما أراها أمامى وأتساءل: ما الذى من الممكن أن يقولوه الآن بعد 30 يونيو؟ هؤلاء كان لهم دائما مواقفهم الوطنية، منهم الموسيقار الكبير كمال الطويل الذى كان كثيرا ما ينتقد النظام ورفض التلحين باسم السادات ومبارك وبعد ثورة «يناير» اكتشف ابنه الموسيقار الشاب زياد الطويل كلمات من تأليفه وتلحينه، كان قد أعدها ليغنيها عبد الحليم يقول مطلعها «يا مصر يا عطشانة للفرحة» وكأنه يغنى لمصر بعد ثورة «اللوتس»، الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة لم أره يوما إلا وهو مباشر وحاد فى مواجهة فساد مبارك ورافض توريث الحكم لجمال. تقدم له الدراما هذا العام مسلسل «موجة حارة» مأخوذا عن رواية له باسم «منخفض الهند الموسمى»، الصديق العزيز مجدى مهنا أنقى الصحفيين فى هذا الجيل، المعارض الذى لم يتوقف قلمه عن فضح فساد الحقبة المباركية، وظل وهو فى صراعه مع الموت يغيب عن الوعى كثيرا، ولكن ما إن يستيقظ حتى يمسك بقلمه ويكتب عموده «فى الممنوع» أجرأ وأقوى وأمتع المقالات التى عرفتها الصحافة المصرية فى الخمسة عشر عاما الأخيرة.
ويقف فى مكانة خاصة من هؤلاء المخرج الكبير يوسف شاهين الذى حلت ذكراه الخامسة أمس. أتذكر أننى التقيت ابنة شقيقته المخرجة ماريان خورى فى ميدان التحرير فى أثناء الثورة وكانت معها الكاميرا وسجلت هذه الكلمات وقلت لها أعلم أنه كان يعانى من متاعب صحية تمنعه من الحركة، ولكنى واثق أنه كان سيطلب من أصدقائه وتلاميذه أن يحملوه على كرسى متحرك حتى يصل إلى التحرير، لقد سبق أن شارك فى أغلب الوقفات الاحتجاجية التى سبقت ثورة يناير لنادى القضاة ونقابة الصحفيين مغادرا مكتبه الذى يقع على بعد خطوات ليقف معنا، بالتأكيد لم يكن يوسف شاهين سيفوت هذه الفرصة، وكانت الكاميرا ستصاحبه حتما فى هذه اللحظات المصيرية.
الدولة فى سنواته الأخيرة كانت تتحسب منه حتى إنه كان ممنوعا من الظهور على الهواء فى التليفزيون المصرى فهم يعلمون أنه سيهاجم فسادهم، عندما كان التليفزيون يحتفل بعيد ميلاده كان يتم خداع المشاهدين ويكتبون على الشاشة اللقاء على الهواء، والحقيقة أنه قبل عرضه مر على كل الأجهزة الرقابية.
عندما قررت الدولة فى 2006 منحه جائزة «مبارك» تمنيت أن يرفضها والدولة بالتأكيد كانت تخشى من إعلان اسمه إلا بعد أن وثقت تماما أنه لن يفضحهم على الملأ، وكانت ستصبح عنوانا رئيسيا فى «الميديا» العالمية، كيف تم إقناع يوسف شاهين بقبول جائزة تحمل اسم الديكتاتور؟ أتصور أن أكثر من شخصية لعبت هذا الدور، ربما على أبو شادى بحكم منصبه فى وزارة الثقافة وتلميذه خالد يوسف وابن شقيقته جابى خورى أسهموا فى إقناعه، والحقيقة أن يوسف شاهين عند إعلانه أسباب قبوله الجائزة أكد وضعها كوديعة فى البنك يحصل سنويا على ريعها كل عام أول طالب قسم إخراج فى معهد السينما، ربما كان يوسف شاهين أبعد نظرا منى ووجد أنه فى النهاية استفاد منها طالب موهوب فى بداية مشواره، ولن يتذكر أحد أنها تحمل اسم مبارك، بل يوسف شاهين.
إنه الغائب الحاضر، كان سيذهب للتحرير فى 25 يناير مهما كلفه ذلك، وكان سيرفض الحكم العسكرى وسيواجه من بعده حكم الإخوان، الكل يعلم أن يوسف لا تحركه سوى دوافعه الوطنية، حتى إنه عند رحيله بدأ البعض يشير إلى اعتناقه الديانة الإسلامية وطالبوا بجنازة إسلامية، رغم أن هذا غير صحيح، كل ما كان يقوله لأصدقائه وتلاميذه أنه يتمنى أن تخرج جنازته من جامع عمر مكرم على صوت الشيخ محمد رفعت، لأنه كان عاشقا له، إنه الإنسان المصرى أولا قبل أن يكون المسيحى الكاثوليكى، إنه «الإنسان اللى مالوش عنوان» وهى الجملة التى تتصدر شاهد مقبرته بالإسكندرية. يوسف شاهين يرفض الدولة الدينية، ولهذا كان سيوقع على وثيقة «تمرد»، كان سيذهب إلى ميدان التحرير أول من أمس ليطالب السيسى بأن يواجه الإرهاب، لكنه أبدا لن يتورط فى هذا الالتباس بين السيسى وعبد الناصر. انتهى زمن الاتكال على زعيم نمنح له مصيرنا بشيك على بياض، يوسف شاهين كان يحلم دائما بمصر مدنية، لا دينية ولا عسكرية، ليتنا نواصل الحلم.