فى مرحلة مبكرة من طفولتنا، كان لاستقبال عيد الفطر كل عام طقوسه وعاداته وتقاليده، إذ كان ذلك مرتبطا بشراء حلة وحذاء جديدين.. وأذكر جيدا أنى كنت أضع الحذاء الجديد بعلبته فى دولاب الملابس، تقديرا له واحتفاء به.. وحين أستيقظ فى الليل، أقوم من فورى وأذهب إلى الدولاب لكى أطل على الحذاء الجديد لأطمئن عليه وأملأ عينى منه، ثم أعود إلى النوم مرة أخرى.. فى تلك الأيام، كان فرحنا وولعنا شديدا بالهدايا، حتى وإن كانت بسيطة.. كنا نتفاخر بها بين أقراننا، نحافظ عليها كحياتنا، ولا نسمح لأحد بالاقتراب منها، فضلا عن المساس بها.. ويا ويل من تسول له نفسه أن تمتد يده إليها فى محاولة لانتزاعها.. هنا تكون الطامة، حيث ينقلب الطفل البرىء الوديع إلى قط برى شرس.
لقد هبط حكم مصر على الإخوان فجأة.. حرقوا مراحل كثيرة.. كان الأمر بالنسبة لهم خيالا داعب أحلامهم طويلا.. جاءهم بعد طول معاناة.. لم يصدقوا أنفسهم.. الفرحة والنشوة أنستهم معاناتهم.. ومعاناة الآخرين.. لم يستعدوا للسلطة.. نسوا أنها تحول العباد والنساك إلى شياطين وأبالسة.. كانت لهجتهم وممارساتهم مع المجتمع استعلائية بعيدة عن أخلاق الإسلام وقيمه وآدابه.. أرادوا أن يحوزوا كل شىء، فخسروا كل شىء.. لم يعد أحد يتعاطف معهم أو يتمنى عودتهم.. كانت مقومات الدولة الحديثة غائبة عن حسهم ووعيهم.. «الداخلية» التى كانت تمثل أداة لقمعهم أيام مبارك، أصبحت أداتهم لقمع معارضيهم.. أصابنى الذهول والدهشة عندما رأيت وسمعت بعضهم فى القنوات الفضائية يدافع عنها باستماتة، رغم حدوث القتل والقمع والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان.. حتى الدكتور مرسى نفسه كرر أكثر من مرة أنه لن يسمح بالحديث عن تطهير الداخلية(!!)
ظلوا يحكمون عاما كاملا، لكنه كان عاما من الفشل وسوء الإدارة والتخبط والارتباك.. لا نستطيع أن نتجاهل الموقف المخزى من قضية فلسطين، ولا ما حدث بالنسبة لمثلث حلايب وشلاتين، ولا ما جرى بشأن سد النهضة الإثيوبى، ولا محاولة بيع مصر من خلال تنمية محور قناة السويس، ولا غض الطرف عما حدث من إرهاب دموى فى سيناء أو فى قلب القاهرة، وبعض محافظات مصر، ولا الفشل فى تحقيق العدالة الاجتماعية.. لا نستطيع أن نغفل ضياع حق الشهداء فى القصاص، ولا إعلانهم الدستورى الكئيب، الذى تحول فيه مرسى إلى ديكتاتور غير مسبوق فى اعتدائه على القانون، واغتياله القضاء.
كانت الموجة الثانية من الثورة فى ٣٠ يونيو، حيث خرج عشرات الملايين من شعب مصر فى مشهد عبقرى وتاريخى، ليؤكد مرة ثانية - فى مدى عامين ونصف العام - استقلال إرادته، وأنه مصدر السلطة، وصاحب الشرعية، وصانع قراره واختياره.. خرجت الملايين لتنزع الشرعية عن مرسى.. وكما انحاز الجيش إلى الشعب فى ثورة ٢٥ يناير، انحاز لتلك الملايين بعد أن أمهل الرجل مرتين للخروج من المأزق، لكن الأخير تصرف بكبر وغرور وسوء تقدير وعدم إدراك لحقيقة ما يحدث.. وفى ٣ يوليو اتخذ الجيش مع قيادات دينية وسياسية وشبابية ورموز وطنية قراره بعزل الدكتور مرسى، ووضع خارطة طريق.. وإزاء ذلك لم يتصرف الإخوان، ومن معهم بحكمة ورشد.. كان المفترض من بداية خروج الملايين أن يستجيب مرسى، وأن يستقيل ليجنب البلاد الانقسام الحاد والاحتراب الأهلى والعنف المجتمعى، الذى تسبب فيه.. لكننا كنا - وما زلنا- أمام طفل تصور فى لحظة أن السلطة عبارة عن لعبة امتلكها.. وعندما تم انتزاعها منه بدأ يملأ الدنيا صراخا وعويلا، داخليا وخارجيا.. لا يريد أن يهدأ حتى تعود اللعبة إليه، ولا بأس أن يدفع فى ذلك أى ثمن حتى ولو أدى إلى تعريض مصر وأمنها القومى للخطر..قيل إن عدد القتلى فى شهر واحد حتى ٢٤ يوليو بلغ ٢١٨ قتيلا، والوضع مرشح للمزيد.. كان لابد إذن من تدخل الجيش لوضع حد لهذه المجازر، فكان خطاب السيسى الحاسم فى ٢٤ يوليو بدعوة الجماهير للنزول إلى الميادين يوم الجمعة ٢٦ يوليو تفويضاً شعبياً، ودعماً سياسياً لجيش مصر، لمواجهة أى عنف أو إرهاب «محتمل» حدوثه من أى طرف، مع وجوب التعامل مع من يثبت ارتكابه أعمال عنف أو التحريض عليه وفقا للقانون.
إن المخاوف التى يرددها البعض أن هذه مقدمة لكى يطل الحكم العسكرى برأسه مردود عليها، فالملايين التى خرجت فى ٣٠ يونيو و٣ يوليو و٢٦ يوليو قادرة على الخروج مرة رابعة، لكى تصوب مسار الثورة من جديد، فثقتنا فى الشعب المصرى، وفى عشقه للحرية تفوق التصور، وتتعدى حدود الخيال.