فى كرة القدم وكل الأنشطة الاجتماعية التى لها علاقة «بتسجيل» أو تحقيق الأهداف، هناك فضيلة يتم التدريب والتأكيد عليها مرارا وتكرارا، وهى «التركيز» الذى هو فى الوعى الفردى حالة عقلية تمكن الفرد من تجاوز كل أنواع الضوضاء والتشتيت الدائر حوله، والسعى المثابر والدؤوب من أجل تسجيل أو تحقيق الهدف. فى الوعى الجماعى المسألة تبدو أكثر تعقيداً وتركيباً بحسب درجة التعددية الفكرية والاجتماعية، وهنا يأتى دور النخبة (كل من لديه القدرة على التأثير من قريب أو بعيد فى اتخاذ القرار) أو النخبة الاستراتيجية (وهى المنوط بها اتخاذ القرار) فى تحديد الأهداف من قبل الأولى، وتحديد أولوياتها وتنفيذها من قبل الثانية. ولن يختلف أحد أن الجماهير المصرية الواسعة، والنخبة المدنية ـ الممثلة فى مؤسسات الدولة، وهى القضاء والإعلام والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والبيروقراطية والأغلبية الساحقة من المجتمع المدنى والمؤسسة الدينية الإسلامية الأزهرية والكنيسة القبطية - التى شاركتها فى الحشد والتعبئة والإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، قد وضعت ثلاثة ملفات كبرى أمام مجلس الوزراء من أجل إنجازها، هى: الملف الأمنى والمهمة هى استرداد حالة من الاستقرار والأمن فى البلاد من خلال تحرير سيناء من الإرهاب، وتحرير البلاد من عمليات العنف التى تمنع عودة البلاد إلى حالتها الطبيعية، والملف الاقتصادى والمهمة هى وقف حالة التدهور التى جرت فى الاقتصاد المصرى منذ يناير ٢٠١١ ووضعه على أول طريق الانتعاش والنمو، والملف السياسى والمهمة هى استكمال أعمال المرحلة الانتقالية فيما يخص إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس المدنية والحداثة من أول الدستور حتى الانتخابات التشريعية والرئاسية.
الملفات والمهام الثلاث كلها تصب فى اتجاه واحد وهو ليس عودة البلاد إلى ما كانت عليه قبل ٢٥ يناير ٢٠١١، وإنما استيعاب كل ما جرى بين هذا التاريخ والتاريخ الآخر فى ٣٠ يونيو- ثم ٣ يوليو- ٢٠١٣. وسواء كان ما جرى بين التاريخين هو ثورة ثانية على الثورة الأولى، أو موجة ثورية جديدة تضاف إلى الموجة الثورية الأولى، أو عملية تصحيحية لثورة تمت سرقتها - أو هكذا قيل - وتم استردادها ممن سرقوها، فإن المؤكد أنه طوال عامين ونصف العام جرت فى مصر حالات من التفاعل الكثيف والعنيف أحيانا ظهر فى شكل الخروج إلى الشارع بأعداد هائلة جعلت الحياة المصرية خارجة عن طبيعتها، ولا تزال هذه الحالة مسيطرة على الشارع المصرى بعد أن لبست لباسا جديدا، أو ليس جديدا بالمرة، فقد كان كل من فى يده السلطة يرفع شعارات الشرعية والدعوة إلى الاستقرار والعمل من أجل دوران عجلة الإنتاج (مبارك والمجلس العسكرى والإخوان المسلمين)، أما من كانوا فى المعارضة فقد كانوا يأخذون الشرعية إلى يد الشعب، ويجعلون ما تبقى رهينة مستقبل غامض. والآن نحن أمام حلقة جديدة من الدعوة إلى استرجاع الأوضاع الطبيعية سوف يتوقف على قدرة القائمين عليها (الرئيس المؤقت ومجلس الوزراء بمساندة القوات المسلحة) أن تكون هذه الحلقة هى آخر الحلقات، بعدها تدخل البلاد إلى آفاق الدول الديمقراطية الحديثة.
الملف الأمنى له شقان: سيناء، والوادى. فى سيناء تجرى عملية اغتصاب لقطعة عزيزة من أرض الوطن من خلال إرهابيين هذه المرة تؤيدهم جماعة الإخوان المسلمين وجماعات جهادية خارجية أقربها إليهم جماعة حماس فى غزة. ومواجهة هذه الحرب التى شنت علينا منذ زمن تحتاج إلى قرارات ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، والأخرى عسكرية. الأولى يمكن تلخيصها فى كلمة واحدة هى «الملكية»، وبدون منح أهل سيناء حقوق الملكية كاملة فى أرضهم ومنازلهم ومرابعهم فإن مشاعر الغربة لديهم سوف تظل مستحكمة، ومع الملكية تأتى عمليات الإنتاج ونقل الثروة وغيرها مما يحول سيناء من كونها قطعة جغرافية يعيش فيها سكان إلى مجتمع يزرع ويصنع ويصدر ويستورد ويتفاعل مع بقية المجتمع المصرى ويتحمل مسؤولياته. الجانب العسكرى مهمة القوات المسلحة التى تعرف كيف تؤديها فى التوقيت الملائم وبالوسائل المناسبة، وهذه لها نقاش مختلف ربما يكون له مكان آخر. فى الوادى فإن اختلال الأمن قد بلغ السيل فيه الزبى، وبات ما كنا نشكو منه فى عصر مبارك من حركات احتجاجية نوعا من المشاغبات مقارنة بمعدلات الخروج إلى الشارع والاعتصامات وحالات الشلل العام. الآن جاء وقت الحسم والحزم بالتمييز بين حق التظاهر الذى هو واحد من أهم منجزات ما جرى منذ يناير ٢٠١١ وهذا يجب الحفاظ عليه، وما بين حقوق الاعتصام والإضراب والعنف فى شوارع العاصمة والمدن الكبرى، وهذه يجب أن يكون للمجتمع وقفة معها خلال المرحلة الانتقالية. ولو كنت مكان القائمين على الأمر لاتخذت من القانون الذى أعده الإخوان المسلمون فيما يخص التظاهر والاعتصام والإضراب مرشدا لقانون يعيد الانضباط إلى الشارع المصرى على الأقل خلال المرحلة الانتقالية وبعدها تتولى مؤسسات الدولة المنتخبة المهمة الثقيلة للتعامل مع هذا الأمر. الأمر المهم هنا أنه لدى الحكم رصيد سياسى مهم ينبغى له الاستفادة منه، وهو أن التحالف الوطنى الحالى يقف فى صفه، وهو يدعوه إلى الاستجابة لمتطلبات المرحلة الراهنة، وعندما استطلع مركز «بصيرة» الرأى العام المصرى وجد أن ٧١٪ منه تؤيد وقف الاعتصامات بشكلها الراهن، بينما لا يؤيدها إلا ٢١٪ وهى النسبة المتوقعة لمؤيدى الإخوان المسلمين فى مصر. وبصراحة فإنه ما لم تتحرك الحكومة، ولديها هذه الدرجة من التأييد، فمتى تتحرك؟!
الملف الاقتصادى ليس بعيدا عن ذلك الأمنى، كما أن أبعاده الفنية تليق بالمتخصصين، ولكن هناك أمورا لا يمكن تجاهلها فى إطار الاقتصاد السياسى للفترة الراهنة. وحتى تتضح الصورة، وحتى قبل تشكيل الحكومة الحالية فإن الاستجابة السريعة من الدول العربية الشقيقة للاحتياجات البترولية المصرية جعلت هناك فارقا نفسيا وماديا فوريا بين عهد تمتد فيه الطوابير أمام محطات البترول والسولار، وينقطع فيه التيار الكهربائى، وعهد آخر عاد ذلك كله إلى العمل. مثل هذا الفارق مطلوب الآن فى مجالات عدة تدور كلها حول مجالين: الأول هو استئناف تشغيل الاقتصاد المصرى، فمنذ الربع الأخير من عام ٢٠١٠ حينما نما الاقتصاد المصرى بمقدار ٥.٤٪، بينما كان الاحتياطى من النقد الأجنبى قد وصل إلى ٤٥ مليار دولار، فإن الاقتصاد المصرى ظل يعانى من التدهور المستمر، سواء قبل وصول الإخوان بعون القوى الثورية لحكم مصر أو بعده. ويمكن القول بيقين إن الحكومة الحالية محظوظة بدرجة ما لأن الأوضاع التى كانت قبلها كانت من السوء بحيث لا يمكن أن تتدهور أكثر من ذلك، وكل إضافة تضيفها سوف تكون مضيئة وظاهرة. وببساطة فإن السؤال المطروح على المجموعة الاقتصادية هو كيفية إعادة تشغيل الاقتصاد المصرى مرة أخرى، فالوقت ليس زمن المشروعات الكبرى والأحلام العظيمة، فكلها سوف يأتى وقتها عندما تعود المصانع إلى العمل مرة أخرى، وتستعيد البنية الأساسية حيويتها، وتعرف جماهير الشعب أن طريق العدالة الاجتماعية لا يأتى فقط من خلال توزيع الثروة، وإنما من خلال زيادة هذه الثروة بحيث يكون فيها ما يكفى للتوزيع. ترتيب الأولويات هنا متروك لأهل التخصص، ومن الجائز أن يكون إصدار قانون الحد الأدنى للأجور واجبا، أو وضع مشاركة القطاع الخاص والاستثمار الأجنبى فى مشروعات البنية الأساسية من الأمور الملحة، ولكن اليقين هنا أن توفير المناخ المناسب للحركة الاقتصادية بثبات اليد المرتعشة فى الحكومة، وانتهاء عمليات المطاردة للقوى المنتجة للثروة فى البلاد، ربما يكون هو البداية المناسبة. والملفات لا تزال كلها مفتوحة؟!