كان اللقاء الأول بيننا أصعب لقاء في حياتي كلها حيث قد تقابلنا لأول مرة في ٢٨ يناير ٢٠١١ بعد خروجي مسيرة مسجد الإستقامة حيث كان يسير بجواري أنا والدكتور «محمد البرادعي» والأستاذ «إبراهيم عيسى» .. عندما خلع «الجاكت» الجلدي الأسود الذي كان يرتديه ووضعه على كتف الدكتور البرادعي الذي لم يكن قد قابله من قبل هذا اليوم المشهود في تاريخ مصر .. بعد أن كان قد إبتلت ملابس البرادعي تماماً بسبب المياة التي صوبت علينا من مدرعات الشرطة في ميدان الجيزة .. فما كان مني سوى أني خلعت «البالطو» الرمادي الصوف الذي أرتديه فوق «البدلة» السوداء التي كنت أرتديها، وأعطيته له كي يرتديه من شدة البرد وأخذه مني بعد أن ألحيت عليه كثيراً .. فما كان منه سوى أن أملى علي رقم هاتفه كي نتلاقى إذا فرقتنا الشرطة .. ولم أستطع أن أصل إليه إلا في اليوم التالي بسبب قطع الإتصالات عن مصر كلها في ذلك اليوم.
منذ ذلك اليوم أصبح «فادي فوزي» أحد أهم الأصدقاء المقربين لي في حياتي .. فما من مليونية من الستة وخمسون التي حضرتها ولا حدث من أحداث الثورة كـ «مسرح البالون والعباسية وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء والألتراس» على مدار عام ونصف رغم أني كنت أعيش في «دبي» طوال تلك الفترة مايو ٢٠١٢ وما بعد عودتي نهائياً إلى مصر في أحداث « محمد محمود الثانية الإتحادية الأولى حتى ٣٠ يونيو» إلا وكان كتف فادي في كتفي.
بعد أن تناولت سحوري وكنت أجهز نفس للنزول لصلاة الفجر في المسجد .. ولم أكن أختيل أني سأدخل من باب المسجد باكياً إلا بعد أن تلقيت مكالمة هاتفية من صديقي «فادي» قبل نزولي بدقائق رغم أنه من أصحاب النوم مبكراً.
- صباح الخير يا محمد .. أخبارك إيه
- تمام الحمد لله يا فادي .. خير يا فادي .. إنت إيه الي مصحيك لحد دلوقتي ؟!!!
هكذا كانت بداية المحادثة بيننا وأنا متعجب وقلق منذ دق جرس هاتفي فلم أعتاد على مكالمته في هذا التوقيت، وخيل لي الشيطان أن هناك مصيبة سيبلغني بها .. إلا أن قلقي تحول إلى حالة من التعجب والدهشة لم أمر بها في حياتي عندما قال لي:
- كنت بَتسحر.
- بتقول إيه يا فادي مش سامعك كويس ؟
- بقولك كنت بَتسحر يا محمد.
هكذا كرر لي الجملة التي ظننت أني قد سمعتها خطأً في المرة الأولى .. فلم أكن أعلم أن المسيحيين قرروا أن يصوموا اليوم معنا تضامناً مع شركاء الوطن المسلمين للتأكيد على التماسك والوحدة الوطنية حتى في أحلك أوقات الصوم الشاق في هذا الشهر بسبب حرارة الجو وطول فترة الصيام من الفجر إلى المغرب.
- لا بجد يا فادي إيه الي مصحيك لحد دلوقتي ؟!
- صدقني يا محمد أنا بكلمك عشان أعزمك على الفطار عندي النهاردة.
- ههههههه ماشي يا حاج فادي هجيلك يا مولانا.
- أنا بتكلم بجد يا محمد أنا عيلتي كلها صايمة معاكم النهاردة.
- أنا عارف إنك مش بتحب الحلفان .. بس إحلف !
- والله صايمين يا محمد .. إنت مش عارف إن المسحيين قرروا يصوموا مع المسلمين النهاردة ؟!
نزلت العبارة من أذني على قلبي .. فارتجف .. وما كان من عيني سوى خضوعها لقلبي فغرقت لحيتي بدموعي.
- أنا عارف يا محمد إنك الوحيد من الي أعرفهم الي زيي مش هينزل يفوض السيسي على بياض فرحلتنا في الثورة لم تجعلني أتعجب من أن يكون موقفك نفس موقفي من هذه الدعوة المريبة .. فهات مراتك وإبنك وتعالوا إفطر معانا النهاردة.
- والله يا فادي أنا في البلد طول شهر رمضان والمشوار هيكون صعب على إبني الي لسه عمرة ٧٥ يوم .. بس والله كأنك حطيت التمرة الي بكسر بها صيامي دلوقتي قبل ما أصوم.
- خلاص يا محمد عشان خاطر حليم الصغير مش هتكلم .. بس كده ليك عندي عزومة في العيد.
- بلغ سلامي وتحياتي وشكري للعيلة .. وقول لهم صوم مقبول إنشاء الله.
- ربنا يخليك يا محمد .. سلملي على مراتك وبوس لي حليم الصغير.. سلام يا حبيبي.
- عليكم السلام يا حبيب قلبي.
ظلت الدموع تنهمر على وجهي وأنا في طريقي إلى المسجد كلما تذكرت كلمات فادي .. وأدركت تماماً مقدار حماية الله لمصر من الفتنة، ورغم رفضي لدعوة «السيسي» الذي أخشى عليه من الغرور الذي قد يتملكه بسبب الإنحطاط الإعلامي تجاه الرجل الذي قد يصل به إلى أن يجعله «نصف إله» يسر على الأرض كما كان حدث منذ ستون عاماً .. إلى أن ما جاء مكالمة «فادي» بسبب تلك الدعوة شفيعتاً لها حتى الأن .. إذا صلحت النوايا.