الذين تابعوا مليونية الإخوان المسلمين يوم الجمعة 12/7/2013 «الثالث من رمضان 1434هـ» لاحظوا اختفاء الأعلام السوداء والأعلام الخضراء تماماً، ولم يرفع الإخوان المسلمين إلا الأعلام المصرية فقط، وبكثرة ملحوظة، حتى بدى كل مُشارك فى تلك المُظاهرة يحمل علماً مصرياً، ويحرص على التلويح به يميناً ويساراً.
ومن معرفتنا بأدبيات وسلوكيات الإخوان المسلمين لا يمكن أن يكون ما ظهر فى تظاهرة ميدان مسجد رابعة العدوية سلوكاً تلقائياً من أفراد الجماعة. فتربيتهم على السمع والطاعة تقتل فى أعضاء الجماعة أى نزعة تلقائية للاختيار الحُر أو للإبداع. فهم ينشأون وقد تعمّق فى وجدانهم أن كل جديد بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة فى النار! وسواء كان ذلك حديثاً نبوياً صحيحاً أو مدسوساً، فإن تصديق الإخوان لفحواه هو السبب الذى يُفسر غياب المُبدعين بين الذين ينتمون إلى الجماعة!
فهل من المعقول أن جماعة تجاوز عمرها ثمانين عاماً، وجنّدت فى صفوفها عدة ملايين، ومع ذلك لم يظهر بين هذه الملايين كاتب روائى أو قصصى، ولم يظهر منهم رسام أو نحات، أو موسيقار، أو ممثل مسرحى أو سينمائى!؟
أغلب الظن أنه طبقاً لنظرية الاحتمالات لا بد أن بين ملايين البشر الذين انضموا إلى الإخوان كان يوجد من لديهم نزعات وميول إبداعية، ولكن التربية النمطية، التى تدعى نهج السلف الصالح، قتلت تلك النزعات الإبداعية فى مهدها، وجعلت من أعضاء الجماعة مخلوقات أقرب إلى الإنسان الآلى، الذى تتم برمجته دورياً، حتى ينهج النهج الذى تريده له قيادات الجماعة.
ومن هنا لا يمكن أن يكون حمل الأعلام المصرية فى يوم الجمعة 12/7/2013 أمراً عفوياً. فطوال الأسبوعين السابقين لم يكن الإخوان يرفعون إلا أعلام تنظيم القاعدة السوداء، أو أعلام تنظيم الجهاد الخضراء جرياً على نهج الحركة الوهابية وتنظيم القاعدة، الذى نشأ أولهما فى الجزيرة العربية على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب فى القرن الثامن عشر، والآخر فى جبال وكهوف أفغانستان على يد أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى فى أواخر القرن العشرين، أثناء مُقاومة الاحتلال السوفيتى.
وعودة إلى موضوع ورمزية الأعلام المصرية، التى رفعها الإخوان المسلمين فجأة فى مُظاهرة 12/7/2013. لقد دأبت الجماعة على ازدراء كل ما هو «وطنى»، لأن لديها عقيدة كونية أطلق عليها مؤسس الجماعة حسن البنا، «أستاذية العالم»، وربما يذكر القُرّاء عبارة الازدراء الشهيرة التى أطلقها مُرشدهم السابق، محمد مهدى عاكف، حينما سئل عن الانتماء لمصر، فقال «طظ فى مصر، وإن أخاً مسلماً من ماليزيا أحب إليه من ألف مصرى لا ينتمون إلى الجماعة».
لكن اللطمات التى تلقاها الإخوان المسلمين، خاصة منذ ظهرت حركة تمرد على مسرح الأحداث، ثم عزل د. محمد مرسى من رئاسة الجمهورية، وعدم استجابة معظم المصريين لنداءاتهم ومُبادراتهم.. لا بد أنها أيقظتهم من أوهامهم. فالمجموعة الشبابية المغمورة التى بدأت حملة تمرد، ونجحت فى جمع ثلاثين مليون توقيع من المصريين لسحب الثقة من محمد مرسى، والمُطالبة بانتخابات عامة رئاسية وبرلمانية مُبكرة.. أفقدت قيادة الإخوان توازنها. فردوا على حملة «تمرد» بحملة مُضادة سموها «تجرد».. ولكن حملتهم لم تنجح حتى فى جمع مليون توقيع. ثم كانت اللطمة الثانية والأكثر قسوة هى الدعوة الناجحة لحملة تمرد بحشد تلك الملايين الرافضة لحكم الإخوان فى كل ميادين المدن المصرية ـ من أكبرها مثل القاهرة والإسكندرية، إلى متوسطها مثل طنطا والمنصورة وبورسعيد والزقازيق ودمنهور، إلى أصغرها مثل دكرنس ودهشور، ومن أطراف مصرـ مثل مطروح وسيناء، إلى صعيد مصر، خاصة قنا وسوهاج وأسيوط والمنيا، وهى المحافظات التى كانت غالبية ناخبيها قد صوتوا للإخوان المسلمين فى الانتخابات النيابية والرئاسية بعد ثورة 25 يناير 2011، ثم جاءت أكبر وأقسى اللطمات، حينما تحركت القوات المسلحة واستجابت طواعية للنداءات الضمنية لحركة تمرد وللملايين المُحتشدة فى كل ميادين مصر، فأنذرت الرئيس محمد مرسى بضرورة الاستجابة لمطالب تلك الجماهير، ولكن الجماعة استمرت فى غرورها وغطرستها، وأوحت مرة أخرى بأنها ستحمى محمد مرسى بالروح والدم.. وتحدث هو أيضاً «28/6/2013» فى خطاب طويل أصاب معظم المصريين بالضجر والملل، لكثرة إلحاح الرجل على «شرعيته»، فاستخدم وكرر كلمة «الشرعية» سبعين مرة، بمعدل مرة كل دقيقتين فى ذلك الخطاب، وهو ما يوحى بأن الرجل فى قرارة نفسه كان يدرك تآكل شرعيته.. وكأن كثرة التأكيد اللفظى ستعيد إليه تلك الشرعية.
فما كان من القوات المسلحة إلا استشارة الأزهر والكنيسة، والأحزاب السياسية والنقابات المهنية، والقيادات الشبابية، أى «أهل الحل والعقد»، ثم أعلنت عزل محمد مرسى من الرئاسة، وتولية المستشار عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية العُليا، كرئيس مؤقت للبلاد، مع جدول زمنى لانتخابات رئاسية وبرلمانية مُبكرة، واستقبل معظم المصريين هذه الخطوة بالفرح والبهجة.. وهنأوا بعضهم البعض، وكأنهم فى يوم عيد «3 يوليو 2013».
وعادت بى الذاكرة أكثر من خمسين عاماً إلى الوراء إلى يوم 26 يوليو 1952، حيث كنت شاهد عيان مع آلاف الصبية على مشهد مُغادرة الملك فاروق قصر رأس التين بالإسكندرية على يخته المحروسة إلى منفاه فى جزيرة كابرى بإيطاليا. لقد كنت فى الرابعة عشرة من عُمرى «إلا قليلا» آنذاك، وها أنا الآن، فى الخامسة والسبعين من عُمرى «إلا قليلا» أشهد مع العالم كله نفس الدراما الوطنية، بدأت الأولى بحريق القاهرة «يناير 1952»، وتحرك الجيش بعدها بستة أشهر «23 يوليو 1952»، وفى الثانية خرج ثلاثون مليون مصرى مُحتجين، مُتمردين يوم 30 يونيو، واستجاب لهم الجيش بعد ثلاثة أيام فقط.
حفظ الله شعب مصر العظيم، وبارك فى جيشه الوطنى الباسل.
وعلى الله قصد السبيل