تقول الإحصاءات المتداولة عن أنصار الرئيس المعزول أنهم يبلغون ما قدره 29 بالمائة من مجموع المواطنين الذين أعرب 71 بالمائة منهم عن رفضهم لسياسة مرسى. ألا يحثنا ذلك على استكشاف الأسباب التى دعت ما يقارب ثلث المجتمع المصرى لمناصرة «شرعية الصندوق» على الرغم من رفض الغالبية العظمى لما أفضى إليه من نظام جائر؟
وهل يعقل مثلاً أن يخرج ثلث الشعب المصرى ليطالب بإعادة المعزول على الرغم من أن معظم هؤلاء المطالبين بعودته قد نالهم من المعاناة اليومية ما نال الثلثين الآخرين الرافضين لذلك الحكم الذى نكل بهم؟!
لعل هذا التساؤل يحتاج منا لمثال عملى يجسده. ولعلنا نجده فى ذلك الشاب الذى حدا به اليأس من إقناع أسرته فى سوهاج بأن تذهب لتعتصم معه فى «رابعة العدوية» فى القاهرة بأن سكب الجاز فى أرجاء الدار وقرر أن «يولع» فى أسرته «الكافرة» برؤيته. ترى كيف نفهم هذه الظاهرة بعيداً عن تقييمها؟ ألم يعان هذا الشاب مما عانت منه أسرته من شح المؤن والوقود وارتفاع الأسعار فى عهد مرسى؟ ومع ذلك هو يصر على أمر يبدو لأسرته «متجاوزاً للمعقول والطبيعى». فأسرته، شأن أغلب الأسر فى مصر، بل فى العالم أجمع، بل شأن معظم الشباب الذى يركب البحر ويعرض نفسه للمخاطر حتى يجد «لقمة العيش» التى طالما حرم منها، أسرته هذه لا تريد أكثر من أن «تعيش». وقد عانت مما أدت إليه سياسة مرسى الاقتصادية من تضييق أسباب العيش عليها. فعلام تذهب إذن لتطالب بعودته؟
كيف لنا إذن أن نفسر ذلك التناقض بين التوجهين الذى كاد أن يفضى لفناء الأسرة حرقاً؟
يذكرنى ذلك التناقض بمقطع من حوار فى مسرحية «حياة جاليليو» لـ«برتولت برخت»، حيث يزور ابن صاحبة الدار التى كان يسكنها «جاليليو» أستاذه فى محبسه الذى أودعه فيه الفاتيكان على الرغم من أنه أعلن على الملء أنه كان «مخطئاً» حين قال إن الأرض كروية، وأنها – أى الأرض – مسطحة، وذلك بعد أن قال له مندوب البابا إن الكنيسة قد أحرقت سلفه الذى أطلق مثل تلك «الهرطقة» من قبل.. وعندما زاره فى محبسه ابن صاحبة الدار التى كان يسكنها، والذى صار تلميذاً له من خلال الحوارات التى كانت تدور بينهما فى الدار قبل أن ينتهى به الأمر لإعلان عكس ما توصلت إليه أبحاثه الفلكية، ذهب الشاب يملأه الحماس ليعنف «جاليليو» على تراجعه عن اكتشافاته خوفاً على حياته بقوله: «عظيم هو البلد الذى به أبطال». فرد عليه أستاذه «جاليليو» قائلا: «بل بائس هو حال البلد الذى بحاجة لأبطال».
فالأصل فى الحياة أن تكون «طبيعية»، ولكن حماس الشباب قد ينسيه ذلك أحيانا، ويذهب به لمثالية متعالية على المطالب الطبيعية للحياة، لـ«بطولة» قد تعرضه للتهلكة ما دامت تتماشى مع صورة الحياة فى ذهنه الخاص. من هنا فهو يرفض النظرة الواقعية التى تضع أولويات الأمور فى نصابها، وتنحاز لأسباب الحياة ضد ما يعوقها. إن نظرة ذلك الشاب لأسرته التى أراد أن يضرم فيها النار أنها لا تستحق الحياة لأنها لا ترى ولا تحس بما يراه هو من تعال على الحياة من أجل مثال مشتعل فى نفسه التى «آمنت» به وتعالت ليس فقط على الحياة بمقتضاه، وإنما أيضاً على سائر البشر الذين يريدون الحياة الطبيعية بعيداً عن ذلك الموقف المتعالى عليها. والغريب أن هذا الشطط المثالى المتعالى على الحياة هو ما تميزت به المسيحية الأولى، بينما جاء الإسلام ليحد من تطرفه ويجمع بين الدنيا والآخرة، أو بالأحرى بين الطبيعة وما بعدها فى بوتقة متناغمة واحدة.