وسط الحديث المتكرر والممل عن المصالحة الوطنية، وتوجيه دعوات للإخوان لحضور جلساتها، وتمنُّع قيادات الجماعة عن الحضور، وتهديدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور للجيش والشرطة وكل القوى السياسية والدينية المختلفة معهم يبقى السؤال: ماذا سيقدم القائمون على أمر البلاد للشعب؟ هل ستشغلهم المصالحة المزعومة، والكلام عن العدالة الانتقالية، وعمل تعديلات على الدستور الإخوانى الفاسد، عن اتخاذ إجراءات سريعة يشعر معها المواطن بما فعلته الثورة من أجله، وأنها حسنت أحواله البائسة، قد يقول البعض إنه يجب ترك مثل هذه الأمور لحين استقرار الأوضاع وانتهاء الفترة الانتقالية، وعمل التعديلات الدستورية، وانتخاب رئيس للجمهورية وبرلمان، واختيار حكومة ليست مؤقتة، خصوصا أننا حتى الآن ما زلنا نشاهد دماء تسيل، والإرهابيون يقومون بعمليات قذرة لترويع الآمنين وقتل الأبرياء، ومواجهة هؤلاء لها الأولوية الآن؟ حقيقة كل ما سبق مهم ويؤخذ بعين الاعتبار، ولكن هذا لا يمنع من اتخاذ إجراءات وقرارات تصلح أوضاع البسطاء الذين لم يعد فى احتمالهم مواصلة الحياة فى ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.
نعم خرجت الناس فى يناير 2011 ويونيو 2013 من أجل الحرية، وأيضا للخلاص من حكم مستبد وسيطرة قلة على مقاليد البلد، ولكن هذا لا يكفى، ويجب أن نتذكر دائما شعار ثورة يناير (عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية)، وهو الشعار الذى لم يتحقق حتى الآن بسبب سياسات الإخوان المسلمين ومن والاهم، الذين اهتموا بتحقيق أغراض الجماعة والأهل والعشيرة على حساب المواطن، ولهذا لم يستمروا فى الحكم أكثر من عام واحد، ولو انحازوا للفقراء لاستمروا فى الحكم وجدوا من يدافع عنهم ويقف بجانبهم، إذن ماذا يفعل الحكام الآن حتى ولو كانوا مؤقتين؟ عليهم أن ينظروا ماذا فعلت ثورة يوليو، ويقتدوا بقائدها العظيم جمال عبد الناصر، لقد أدرك الزعيم الراحل أنه يجب اتخاذ إجراءات سريعة لصالح الفقراء والمعدمين، فأصدر بعد أقل من شهرين قانون الإصلاح الزراعى، والذى استفاد منه ملايين الفلاحين، وأصبحوا مُلَّاكا للأراضى بعد أن كانوا أُجراء، ولهذا وجد الإقطاعيون أنفسهم، ليسوا فى مواجهة السلطة فقط، ولكن أيضا فى مواجهة هذه الملايين، فأصبحوا عاجزين عن الاعتراض أو القيام بثورة مضادة، كانت عبقرية عبد الناصر أنه أدرك منذ البداية أن انحياز المواطنين للثورة وإيمانهم بمبادئها، لا يكفى لكى يندفعوا للدفاع عنها فى مواجهة الأخطار التى كانت تحيط بها، فأراد أن يربطهم بها بمصلحة مباشرة، تؤثر فى حياتهم وترفع من شأنهم اجتماعيا، وهكذا خلقت ثورة يوليو منذ البداية جنودا لها وليسوا مؤيدين ومتعاطفين فقط، وأتبعت ذلك بقوانين أخرى رفعت من شأن العمال وحسنت أحوال صغار الموظفين. إذن لم ينتظر عبد الناصر تحقيق الأهداف الكبرى حتى يصدر قوانين لصالح الفقراء، لم يقل إن خروج الاستعمار البريطانى أو إعداد دستور جديد له الأولوية، ولكنه رأى أن هذا المسار المهم لا يتقاطع مع تحسين أحوال المواطنين البسطاء. إن هذه النظرة هى ما يجب أن يفكر فيه الرئيس المؤقت وحكومة الببلاوى، عليهم أن يسرعوا بإصدار قانون الحد الأدنى للأجور، والذى يستفيد منه ملايين العمال والموظفين، ومطلوب منهم أيضا نظرة عاجلة للفلاحين، واتخاذ إجراءات لصالحهم، حتى يشعر معظم المواطنين أن الثورة جاءت لتنصفهم. إننى لا أقلل من أهمية الأهداف الكبرى للثورة، ولكننى أيضا لا أريد أن يقول الناس الذين يتلهفون على تحسين أوضاعهم، وماذا استفدنا من الثورة وما الذى حصلنا عليه بسببها؟ لقد تردد هذا الكلام بعد ثورة يناير بسبب تقاعس المسؤولين وقتها عن الانحياز للشعب، ولا أريد أن يتكرر نفس السؤال بعد ثورة يونيو، التى أريدها أن تكون منجزة وحاسمة مثل ثورة يوليو الملهمة والمعلمة لجميع الثورات.