كلما تحدث واحد من دعاة المصالحة غير المشروطة مع جماعة الشر (المعروفة إعلاميا باسم جماعة الإخوان) قال: «يا أخى الرسول نفسه تصالح مع كفار قريش صلحا غير مشروط، وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء».
فهل حقا صالَح الرسول كفارَ قريش صلحًا غير مشروط؟
أم أن هؤلاء يكذبون على الرسول، ويجعلون من حقيقة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) أكذوبة كبرى، لأنهم لا يذكرون الضمانات التى حصل عليها الرسول من قريش قبل أن يطلق سراحها.
يقول شيخنا التاريخ: إن قريشا قد أجبرت رسولنا الأكرم وصحابته الكرام على الذهاب إلى (المنفى) وقد صادرت قريش كل ممتلكاتهم وثرواتهم التى لم يستطيعوا أخذها معهم، ثم حاربتهم فى دار منفاهم حربا لا هوادة فيها، ثم أَذِن الله للمظلومين بأن يستردوا حقهم المسلوب، فعمد سيد الخلق إلى طرق محددة يضمن بها رجوع الحق لأصحابة دون أن تكون هناك مذبحة.
أولا: رفض لقاء رئيس دولة العدو (أبى سفيان بن حرب) الذى حاول التدخل لكى يصرف الرسول عن نيته فى الدخول إلى مكة، حتى إن أبا سفيان ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقال: «والله ليأذنن لى (يعنى يجب أن يقابلنى محمد) أو لآخذن بيد بُنى هذا، ثم لنذهبن فى الأرض لنموت عطشا وجوعا».
ثانيا: اعتذر رئيس دولة العدو عن كل ما ارتكبه فى حق الرسول والمسلمين وألقى السلاح، بل وأسلم.
ثالثا: أصدر الرسول أمرا لقائدَى جيشه (خالد بن الوليد والزبير بن العوام) كان نصه: «لا تقاتلا إلا من قاتلكما». وهذا يعنى أن قتال جيوب الفتنة أمر وارد لكى تستقر أمور الناس.
رابعا: لم يعمل الرسول على إقصاء أحد بدليل قوله: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن» قالها صلى الله عليه وسلم، بعد الاعتذار الذى قدمه أبو سفيان وبعد أن ضمن الرسول أن خطر رئيس دولة العدو قد انتهى إلى غير رجعة.
خامسا: أهدر الرسول دم أفاعى الفتنة، يقول ابن إسحاق: «عهد الرسول إلى أمرائه أن لا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم، إلا أنه عهد فى نفر سمّاهم، وأمر بقتلهم، وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة». وبالفعل بعض هؤلاء تم قتله (بينهم نساء) والبعض الآخر، تاب وأناب واعترف بالدولة الجديدة وخضع لها، مثل عكرمة بن أبى جهل الذى أعلن إسلامه وعلت مكانته بين المسلمين حتى تولى قيادة فرق من الجيش المسلمين فى بعض المعارك.
سادسا: عمل الرسول على تجفيف منابع ثقافة العدو التى قد تقود بعضهم إلى معاودة الخروج على الدولة الجديدة فتم القضاء على كل ما كان يشار إليه بوصفه آلهة الدولة القديمة. أمر الرسول بهدم الأصنام التى كانت حول الكعبة، وكان عددها ثلاثمئة وستين صنما، ثم أرسل خالد بن الوليد لهدم صنم العُزّى، وأرسل «عمرو بن العاص» لهدم صنم سواع، وأرسل سعد بن زيد بن الأشهلى لهدم صنم مناة.
سابعا: قبل الحديث عن أى مصالحة وضع الرسول دستور الدولة الجديدة، والذى ينص نصا صريحا على المساواة التامة بين مواطنى الدولة: «إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خُلق من تراب».
وينص الدستور على بطلان المزاعم القديمة التى تشعل نار الصراعات: «ألا إن كل ماثرة (الخصلة التى تتوارث ويتحدث بها الناس) أو مال يُدعى، فهو تحت قدمَى هاتين».
كما نص الدستور على توضيح العقوبات، خصوصا عقوبة القتل: «ألا إن قتيل العمد شبه الخطأ بالسوط أو العصا فيه مئة من الإبل».
ثامنا: بعد إقرار هذا الدستور وضمان القضاء على جيوب الفتنة وتجفيف منابع ثقافة العدو، بل وبعد اعتذار رئيس دولة العدو وإعلانه وكل أسرته وكل قواده الإسلام، وقف صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة ثم قال: «يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أنى فاعل بكم؟
قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وبعدُ فهذه كانت شريعته صلى الله عليه وسلم فى المصالحة الحقيقية، أما تلك المصالحة المطلقة غير المشروطة التى ينادى بها البعض فليست أكثر من لعب عيال أو تخاريف شيخوخة.