«يا أم محمد يا أم مينا.. الشرعية ليكو ولينا »
تمر مسيرة مؤيدي «الشرعية» من تحت شباك المكتب، ويخترق أذني «هتافنا» الذي طالما رددناه في الميادين ضد الطائفية «يا أم محمد يا أم مينا.. الحرية ليكو ولينا»، لكن بعدما حلّت كلمة «الشرعية» محل كلمة «الحرية».
كان ذلك موجزًا وافيًا ودالاً، وتلك هي المسألة.
الشعارات «الثورية والديمقراطية» التي تبتذل الآن في الشوارع هي ببساطة مجرد «صور» تم انتزاع «الحرية من مضمونها وغرضها واتجاهها» وتم وضع «السلطة» ومفرداتها التجميلية محلها.
هذا ليس جديدًا، مؤيدو الإخوان والتيارات السلطوية الإسلامية اعتادوا ذلك طوال سنة من تجربتهم التي فرّغت إجراءات الديمقراطية من اتجاهها نحو الحرية وجعلتها مجرد «صورة» لأدوات مهتمة بتوطيد السلطة لا ضمان الحرية.
هتاف وشعار «تطهير الإعلام» رفعه مطالبون بالتغيير ويستهدف بالأساس «إعلام الدولة» التابع للسلطة ويعمل بأموال الناس لتقديم خدمة إعلامية تروق للسلطة ومن يتولاها، كان شعارًا عكس اتجاه «السلطة» وفي اتجاه «الحرية». السلطويون الإسلاميون ومؤيدوهم رفعوه لاحقًا في وجه «الإعلام الخاص» وفي وجه «حرية الإعلام» الذي يزعج «سلطتهم».
هتاف وشعار «تطهير القضاء» رفعه مطالبون بالتغيير من أجل السعي في اتجاه التخفيف من سطوة «السلطة التنفيذية» على هيئات القضاء ومراجعة إجراءات تمس حرية الناس وحقهم في تقاضِ عادل ونزيه، لكن السلطويين الإسلاميين فرّغوا الهتاف والشعار من مضمونه وخاضوا معركة مع الهيئات القضائية التي تعاند «سلطتهم» وتضايقها، وفي سبيل ذلك رحّبوا بأن يعيّن رأس السلطة التنفيذية النائب العام. وبذلك أصبح «التطهير» هو إجراء مفيد لـ«السلطة» ويريحها ممن يزعجونها ويأتي بمن يدعمها.
بالمثل، هتاف وشعار «يسقط حكم العسكر» الذي قيل في مواجهة سلطة المجلس العسكري، كان يطالب بتسليم إدارة المرحلة الانتقالية لمدنيين، مجلس رئاسي أو حكومة ثورية أو حتى للبرلمان بعد انتخابه. كان هتافًا وشعارًا يسير عكس اتجاه السلطة ويدفع في اتجاه الحرية. رفضته وقتها معظم تيارات السلطويين الإسلاميين.
وقتها كان تفاهمهم مع قادة الجيش وإجراء انتخابات في أقرب وقت وبأي شروط مفيدًا لسعيهم نحو «سلطتهم» المتوقعة استنادًا لثقتهم في قدراتهم الانتخابية. ساعتها لم تنفر عروقهم من فرط الثورية، لأن «عسكر» يديرون مرحلة انتقالية ويهندسون «معهم» بداية الديمقراطية، وحتى بعد تسليم السلطة، لم تنفر عروقهم الثورية غضبًا من أجل «صلاحيات المؤسسة العسكرية» في الدستور.
وفي يونيو قبل انهيار سلطتهم بأيام بدلاً من أن يحاول مرسي تدعيم سلطته بالاستجابة لبعض مطالب الناس، أصر على إجراء حركة محافظين يحافظ فيها على حصة العسكريين ليسترضيهم حماية لـ«سلطته».
شعار «يسقط حكم العسكر» الآن وهو ينطلق من حناجر السلطويين الإسلاميين هو مجرد «صورة» مفرّغة ومسخ للهتاف والشعار الذي كان أولاً ضد «السلطة»، يتم الآن رفعه دفاعًا عن «سلطة» رئيسهم التي سقطت وداستها الأقدام في الشوارع، ودفاعًا عن «مسارهم الديمقراطي» الذي لم يقدم شيئًا لإرادة الملايين التي دعت لتعديله وإصلاح مساره، ففضل «الرئيس الشرعي» استرضاء الجيش خوفًا منه بدلاً من استرضاء شعبه.
سقطت سلطته وشرعيته فالتقطها الجيش ببساطة معلنًا انهيار المسار السياسي الذي تم تفريغه مسبقًا من قيمة «الديمقراطية» ووقف عاجزًا وبليدًا أمام احتجاج متصاعد وانقسام شعبي فادح ومتزايد.
يمكنك أن ترى أثرًا مخففًا لهذا الانقسام في احتكاكات حشود «متوهمي الشرعية» مع الأهالي في كل مكان. تخيّل لو أن حشود من «سحلوا الشرعية» كانت لا تزال في الشارع، تخيل اقتتالاً أهليًا أوسع وأشرس. يبدو ذلك مظهرًا رائعًا لـ«الشرعية» والفاعلية العظيمة للمسار الديمقراطي في إدارة الاختلاف.
في حال كونك أعمى أو كونك صريحًا وواضحًا مع نفسك وتريد الدفاع عن سلطة ترضيك وحدك، فيمكنك ساعتها أن تختبئ وراء شعار «يسقط حكم العسكر» و «ضد الانقلاب»، وتزعق وتنفر عروقك كثائر لا يقبل الضيم، كما فعلت سابقًا واختبأت وزوّرت شعارات «تطهير الإعلام» و«تطهير القضاء» دفاعًا عن «سلطتك» وليس «حريتنا».
لا تسئ فهمي، أنت لم تزوّر شيئًا تعتقد في أصالته أو أهميته، في الغالب أنت تستوفي هذه الصور مثلما تستوفي إجراءات الديمقراطية ومثلما تستوفي أي إجراءات روتينية أنت مضطر لقبولها ولست راغبًا فيها.
خانات يتم ملؤها «بشكل صوري»، لأن ما وراءها من قيم لا تشغل اهتمامك الأساسي، المهم أنها تسير في اتجاه سلطتك، ساعتها كل شيء على ما يرام. أما عندما يحدث ما يستدعي تنازلات أو قبولاً لمطالب ملايين فإن المسار الديمقراطي والرئيس المنتخب والمجلس التشريعي الموقر يرفضون الاستجابة ويتجمّدون في أماكنهم في بلادة وغباء، ليس في خطتهم «الحقيقية والأصيلة» أي سعي في اتجاه آخر غير اتجاه «مشروعهم السلطوي».
من المؤسف أن يتقدم الجيش مرة أخرى ليمسك بزمام السلطة في مرحلة انتقالية جديدة، لكن من الطبيعي أن ينهار المسار الديمقراطي بعد فشله في الاستجابة لخلاف عميق، لأن من هندسوه حوّلوه لمسار «صوري» و«مزوّر» ومجرد واجهة لمشروع «التدرج وصولاً إلى التمكين»، وهو مشروع معلن، لكن طبعًا ليس على ألسنة مسؤولين رسميين.
النتيجة أنه أصبح مستحيلاً بشكل عملي في هذه اللحظة – مع استمرار غيبوبة قيادات السلطويين الإسلاميين وهياج مؤيديهم- أن يتولى السلطة الآن طرف ما مدني – ينتمي لأحد طرفي التوتر- وسط أجواء الاقتتال الأهلي التي تسود الشارع.
ولكن بعدما يفرغ المزوّرون من رافعي شعارات الشرعية والديمقراطية من التلاعب بالشعارات من أجل شرعية سلطتهم الساقطة، فإن الديمقراطية ستحتاج من يخوض معركتها ويبدأ مسارها مرة أخرى، لكن في اتجاه الحرية بعيدًا عن تزوير السلطويين الإسلاميين وصور «ثورتهم» و«ديمقراطيتهم» المزيفة.