ضاعت منا السلطة، شئنا، أم أبينا، قبلنا، أم رفضنا.. وعلينا أن نحافظ على المجتمع، يحبنا، ونحبه، ويثق بنا، ونثق به.. فالكراسى تذهب، وتأتى.. ولكن المجتمع ورأيه العام هو الأهم والأبقى.. وهو الذى أتى بالإسلاميين إلى السلطة.. ويمكن أن يأتى بهم بعد ذلك.. ولا بد من مراعاة هذا الرأى العام كله مسلمين ومسيحيين.. ويساريين واشتراكيين وليبراليين وعوام وفلاحين وعمال.. كما فعل رسول الله (صلى الله عليه، وسلم)، حينما رفض قتل زعيم المنافقين ابن سلول مبررا ذلك بقوله: «حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه».. فاهتم بالرأى العام لغير المسلمين.. واهتم بسمعته لديهم ورأيهم فيه.. وعلينا أن نفصل بيننا وبين الذين يطلقون النار فى سيناء وغيرها على الجيش والشرطة، ونرفض أفعالهم.. حتى لو وقع علينا ظلم منهما.
الحركة الإسلامية تحتاج أن تصلح اليوم ما بينها وبين الناس والمجتمع من كافة الأطياف لا أن تدير معارك تكسير العظام بينها وبين مؤسسات الدولة.. فالمجتمع هو الرصيد الاستراتيجى للحركة الإسلامية، وسيعود إليها إذا راجعت مسيرتها، وصوبت الأخطاء الاستراتيجية التى وقعت فيها.
إذا تجاهلنا فقدنا للسلطة، وحاولنا إعادتها بالقوة، فسنخسر كل شىء.. وعلينا أن نعلم أن ضياع السلطة هذا مؤقت بتوقيت تصالحنا مرة أخرى مع المجتمع المصرى وتواضعنا له، وتواصلنا مع كل أطيافه وترك لهجة الاستعلاء والاستعداء التى غمرت خطاب البعض فى الفترة الأخيرة.. وأن ندرك أن السلطة والحكم لا يصنعان الدين.. خاصة إذا لم تستقر معانى الدين فى القلوب والنفوس والضمائر.
فالإسلام أكبر من كل كراسى السلطة.. والإسلام يأتى بأعظم الكراسى.. ولكن الكراسى لا تأتى بالإسلام.. ويمكن أن يتربع بعضنا على عرش السلطة، وينزل من عرش القلوب.. ويمكن أن نستقر فى قلوب الناس، وننال حبهم وثقتهم وتضحياتهم، دون أن يكون لنا أى منصب.. خاصة إذا استطعنا أن نقدم لهم أعظم النماذج الأخلاقية الزاهدة الورعة المتواضعة.. والإسلام فيه قوة ذاتية وديناميكية، فهو حى نابض فتى.. وهو يستطيع التعامل مع كل أصحاب الأفكار الأخرى والأديان المختلفة، ويظلهم بظله الرحيم الوارف.
ومشكلة الإسلام فيمن يقدمونه للناس.. فالإسلام تجارة رابحة يتولاها أحيانا تجار فاشلون، فتخسر.. والإسلام قضية عادلة يتولاها أحيانا محامون فاشلون، فتخسر تلك القضية العادلة.. دون أن يكون للإسلام ذنب فى ذلك.
وعلينا أن ندرك أن المشروع الحضارى الإسلامى أكبر من حكم أو مال أو وزارة يتبادلها القوم ما بين صالحين وفاسدين.. أو أكفاء وفاشلين.
وهو أكبر من كل أغراض الدنيا.. وهو الدين الوحيد الذى يمكن أن ينتشر بقوة وسرعة دون أن تسانده دولة أو عرش أو سلطان.. إنه يحتاج فقط إلى الحرية والعدل السياسى والاجتماعى، لأتباعه وللجميع.. وبعدها ينطلق الإسلام وحده بقوته الذاتية نحو الآفاق الرحبة.
فالمشروع الحضارى الإسلامى يسعى المسلم والمسيحى واليهودى واليسارى والاشتراكى والليبرالى، لأنه يصدر القيم الحضارية الرائدة.. وهذا المشروع لم يسقط لا بموت النبى (صلى الله عليه، وسلم) أو الخلفاء الراشدين، ولم يزل بزوال دولة الخلافة أو الأموية أو العباسية أو الأيوبية.. ولا بموت أعظم قادة الإسلام.. إنه أكبر من الأشخاص والجماعات والدول.. إنه يسع المسيحى واليهودى برحمته وعدله، حتى إن لم يدخل فيه.. والمسلم بالدخول فيه.