لفظ ببضع كلماتٍ وهو يحتضر، بعد أن تلقى الرصاصات الغادرة فى صدره، لقد قال لمرافقيه فى السيارة التى نقلته إلى المستشفى فى محاولة يائسة لإسعافه (يعلم الله أننى ما فعلت شيئا إلا من أجل وطنى) وبعدها حاول جراح القلب الشهير، نقيب الأطباء السابق د. حمدى السيد إنقاذ حياة فرج فودة، وبذل جهوداً جبارة، ولكن إرادة الله كانت أسبق وأقوى، وليلتها كنت أتابع الموقف مع المستشفى كل عشر دقائق، وأبلغ الرئيس الأسبق «مبارك» بالتطورات، وعندما أعلن الجراح الكبير أن الله قد استرد وديعته شعرت بأن فصلاً فى حياة هذا الوطن قد انتهى فجأة، خصوصاً أن ذلك المفكر المصرى المتميز قد رحل عن عالمنا، بعد مقال له فى مجلة أكتوبر انتقد فيه الإمام الشعراوى- وأنا بالمناسبة لا أتحمس للهجوم على علماء الدين، وإن كنت أرى حق الحوار معهم والاختلاف عنهم- حيث ظهرت فتاوى غير مسؤولة تهدر دم فرج فودة، وتبيح أمام ضعاف العقول وموتى القلوب قتل ذلك المجتهد الذى قدم قراءة مختلفة لكثير من المواقف الإسلامية وطرح قضايا يعزف الكثيرون عن التطرق إليها، ولست أنسى جلساتنا معاً، بعد صلاة الجمعة كل أسبوع فى «الصالون الثقافى» للواء الدكتور عبدالمنعم عثمان، مدير مركز القلب فى مصر الجديدة، حيث تلتقى نخبة من المسؤولين والمثقفين فى منزل ذلك الرجل الذى يمثل ظاهرة فريدة فى عصرنا- أطال الله فى عمره- وقد كان فرج فودة يطل علينا بأفكاره الجديدة ورؤاه المختلفة وفكره المتوهج وحماسه المتألق، بعد أن قرأ كثيراً، وأبحر طويلاً، وأصدر كتباً، وقدم دراسات وكتبا ومقالات، تمثل بحق رؤية عادلة للإسلام الحنيف وسماحته المبهرة، فعلى الرغم من أنه يحمل الدكتوراه فى علوم الزراعة فإن اطلاعه الموسوعى وحرصه على احترام العقل جعله يؤمن بأن الإسلام العظيم قد جعل التفكير فريضة وفتح باب الاجتهاد أمام كل المؤمنين.
وترجع صلتى بالراحل فرج فودة إلى سنوات الشباب، عندما كنا سوياً جزءاً من جيل «منظمة الشباب العربى الاشتراكى» فى العصر الناصرى بأمجاده وشوامخه وتحدياته، وقتها كان فرج فودة متميزاً وواعداً ومختلفاً، ومازلت أتذكر عندما أوفدنى الرئيس الأسبق «مبارك» إلى الكاتدرائية المرقسية لمقابلة قداسة البابا الراحل «شنودة الثالث» لاستطلاع رأيه فيمن يرشحهم من الأقباط لعضوية «مجلس الشورى» بالتعيين، وفوجئت بالبابا شنودة يملى على اسماً واحداً هو د. فرج على فودة، فأبديت دهشتى للبابا الراحل، وقلت له إن فرج فودة مسلم، فقال لى لا يوجد لدى فرق بين مسلم ومسيحى، إنما أريد فقط من يدافع عن قضايا الإنسان وحقوقه، ويؤمن بالعدل والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، ويدعو إلى المحبة والتسامح، مثلما يفعل فرج على فودة، فيما يقوله وما يكتبه، وعندما نقلت ذلك إلى الرئيس الأسبق أبدى دهشته وتقديره فى آن واحد للبابا الراحل، ومنذ أسابيع قليلة جاءنى اتصال من أسرة الصديق الراحل فرج فودة يدعونى إلى احتفالٍ بإحياء ذكراه، وكم كانت تعاستى لأننى كنت خارج البلاد فى رحلة علاج عاجلة، ومازلت أذكر أحزان شقيقته ومأساة أسرته، بعد رحيل رجل لم يكن كمثله كثير من الرجال.. رحم الله د. فرج فودة، بما له وما عليه وحسابه فى النهاية عند ربه، ولكن اسمه يبقى نبتة فى الأرض تزهر الانفتاح الفكرى والتسامح الأخلاقى والوعى الدينى والتألق الإنسانى.
twitter:drmostafaelfeky