ليس دفاعا عن شخص، ولكن عن قيمة، وليس انحيازا إلى إيناس عبد الدايم، ولكن إلى الثقافة المصرية التى من الواضح أنها تحتل مكانة متدنية فى فكر صانع القرار الحالى، إنها الطريقة العقيمة نفسها التى تعاملت بها الأنظمة السابقة، وكنا نعتقد واهمين أن النظام الحالى، لأنه ولد من رحم ثورة، سيكون أفضل قليلا، لذا فقد وجب على رئيس الوزراء الاعتذار مرتين، الأولى بسبب طريقته المهملة فى التعامل مع المثقفين المصريين وفق مبدأ «آهو نختار لهم أى وزير والسلام»، والثانية لأنه لأسباب غامضة ضحى فى اللحظة الأخيرة بالشخص الذى كان أليق ما يكون بهذا المنصب، وأصدر تشكيله الوزارى دونها، ومن الصعب على عاقل أن يصدق أن السبب هى عدم رضا جماعة دينية موتورة، خصوصا بعد ثورة لم يكن للجماعات الدينية أى دور فيها، وفى الواقع فإن وجود إيناس عبد الدايم كان يمكن أن يكون مكسبا لهذه للحكومة، ونقطة قوة لها لا عليها، والأسباب عديدة، أولها: أنها فنانة مبدعة، عضو أصيل فى الجماعة الثقافية المصرية، وجه مشرق يعرفه العالم كله، عزفت فوق أشهر مسارحه، وحصلت على عديد من الجوائز وآيات التكريم الدولية، وقد قامت اليونان بتجربة مماثلة حين اختارت الفنانة «ميلينا ميركورى» لتكون وزيرة ثقافتها بعد أن خرجت من ظلمة الحكم العسكرى، وأكد وجود هذه الفنانة فى السلطة أن بلادها تسير على طريق الديمقراطية والمدنية، وكانت علامة مضيئة فى الثقافة الأوروبية، وكان يمكن لإيناس عبد الدايم أن تقوم بهذا الدور الحضارى فى تلك اللحظة الدقيقة.
وثانيا: فإنها ليست فنانة فقط، ولكنها رائدة فى العمل العام، وقد نالت جائزة أبرز عشر نساء فى مصر لهذا القرن، وعملت متطوعة مع المكفوفين، غير مناصبها فى أكاديمية الفنون، واختيارها كوزيرة هو الرد العملى على نظام الإخوان الذى كان يقصى المرأة ويجردها من إنسانيتها، فهذه السيدة هى النتاج الحقيقى للمجتمع المصرى المنفتح الذى يتيح للموهوبات من نسائه أن يتقدمن ويبرزن، وقد سعى الإخوان لتشويه هذه الصورة الحضارية عندما قام أتباعهم بمحاولة اغتصاب النساء فى ميادين الثورة، وقد كنا فى حاجة ماسة إلى نموذج مثل إيناس عبد الدايم لنعدل هذه الصورة المشوهة.
وثالثا: أنها كانت سببا رئيسيا فى الغضبة التى قام بها المثقفون المصريون واعتصامهم فى مقر وزارة الثقافة، فقد كان فصلها من إدارة الأوبرا على يد الوزير الإخوانى علاء عبد العزيز القشة التى كسرت العلاقة الواهية بين المثقفين وحكومة الإخوان، إن كانت هناك علاقة أصلا، وكان قرار الفصل الذى صدر بلا سبب دليلا على رغبة الإخوان فى تقويض الثقافة المصرية وتفريغها من مبدعيها، خصوصا وقد استطاعت هذه السيدة أن تحول الأوبرا فى فترة قصيرة إلى بؤرة مشعة بالفن، ومركز لاكتشاف مواهب الفن المصرى فى الغناء والعزف دون ضجيج وبتكلفة منخفضة، الأمر الذى أظهر مقدرتها فى العمل التنفيذى، وهذا هو بالضبط سبب رد الفعل الغاضب للعاملين فى الأوبرا والوسط الثقافى، حين أعلن الوزير عن فصلها، ولم يتصور أن هذه الفعلة ستنقلب عليه شخصيا وهو وجماعته، وأن الوسط الثقافى والفنى سيقف له بالمرصاد، ولم يتخيل وهو الذى ظل طوال عمره حبيس غرفة المونتاج المظلمة، تلك المكانة التى تحتلها موهبة هذه السيدة فى قلب الثقافة المصرية، وكانت النتيجة أنها بقيت تحت الضوء، بينما اختفى الوزير التعيس فى ظلال الرفض والتهميش، ولم يتصور أحد أن تطفئ الأوبرا أضواءها، وأن يتجمع فى ساحتها الفنانون الغاضبون وانضم إليهم المثقفون من كل مكان، وقاموا بخطوة تصعيدية حين احتلوا مكتب الوزير ومنعوه من دخول الوزارة كلها، وأصبح بذلك أول وزير فى تاريخ مصر يعين ويعزل دون أن ينعم بمنصبه إلا لعدة ساعات، وكان هذا أسلوبا ثوريا مبتكرا حتى بالنسبة إلى المثقفين أنفسهم، فقد قفزت إرادتهم من مجال القول إلى الفعل، وأحدثوا نقلة نوعية فى التمرد على السلطة القائمة، وسرعان ما سارت على دربهم بقية قوى الشعب المصرى، فقد أمدتهم بطريقه حاسمة لمقاومة تعيينات المحافظين من الإخوان التى فرضتها السلطة الحاكمة، وهبت الجماهير الغاضبة فى المدن الإقليمية المختلفة لتمنع كل محافظ من الدخول إلى مقار عمله، أغلقوا أبوابها المبانى بالجنازير، أو اقتحموها واحتلوها على غرار وزارة الثقافة، واشتعلت الثورة دون أن يدخل واحد من هؤلاء المحافظين إلى مكاتبهم.
كان من الطبيعى أن تقول القوى الوطنية كلمتها، خصوصا أنها هى التى قامت بالثورة بعد أن انزاح الإخوان وعصابتهم، وكان يجب انتصارا للعدل والحرية، أن يتم اختيار هذه السيدة، أو على الأقل اختيار واحد من بين الذين قاموا بطرد الوزير وحرصوا على استمرار اعتصامهم حتى يوم الثورة، وكان فيهم شعراء وكتاب كبار ومخرجون وموسيقيون من طراز رفيع، يمثلون جميعا روح الإبداع المصرى، ومع ذلك أدار لهم صاحب القرار ظهره، وتجاهلهم تماما، وبحث عن وزير تقليدى عتيق الطراز، جربه المجلس العسكرى فى واحدة من أسوأ فترات الثورة المصرية، قدم استقالته فى نهايتها ليظفر بجائزة الدولة التى وهبتها الأجهزة التابعة له، ثم عاد إلى الوزارة بعدها بأيام حين لم يجد الإخوان غضاضة فى أفكاره، ولم يجد هو ما يمنعه من العمل تحت نظام دينى متعنت يعادى الفن والثقافة، وها هى سلطات حكومة ما بعد الثورة تستدعيه مرة أخرى لتؤكد أن ملف الثقافة لا يهمها فى شىء، وأن رموزها لا يحتلون أى مكانة فى تفكيرها، ولا فرق لديهم بين شخصية مبدعة يمكن أن تعطى لمصر وجها مشرقا فى الخارج، وبين شخصية تقليدية تجيد الأكل فوق كل الموائد، بشكل عام فإن أغرب من ثورة 30 يونيو هو التشكيل الوزارى الذى أعقبها، فالسلطة الحاكمة تتجاهل صناع الثورة وتختار أشخاصا لا شأن لهم بها، مجموعة منهم من بقايا كل الأنظمة التى حكمت وفشلت وسقطت، بما فيهم نظام الإخوان المسلمين، مرة أخرى يقوم الشباب بالثورة ثم يتركونه لذوى الشعر الأبيض وأحيانا بلا شعر على الإطلاق، الخطأ نفسه الذى نقع فيه، نستبعد المستقبل حتى ننبش فى الماضى بحجة البحث عن ذوى الخبرة، رغم أن كل الخبرات التى استخدمتها الأنظمة المصرية كانت فاشلة، وكلها أثارت غضب الناس وحنقهم، ثورة أو لا ثورة، يعود محترفو الحكم إلى مناصبهم بكل ما يحملون من عطن وغبار وخيوط عنكبوت، وليس غريبا فى هذا الوضع أن ينزوى الدكتور البرادعى الرجل الذى يمثل الروح الحقيقية للثورة المصرية، والذى شارك فى كل مراحلها، أن يتوارى عن المنصب التنفيذى الأول لمجرد أن السلف قد اعترضوا عليه، وقبل بمنصب أقل من قدره وقيمته حتى تنجح الفترة الانتقالية، ويثبت الرجل مرة أخرى أنه لا يأبه بالمناصب، إنها ليست مرحلة انتقالية وتمر، ولكنها فرصة لتصحيح المسارات الخاطئة، والوزارة المؤلفة مليئة بالأخطاء، وعلى رئيس الوزراء أن يعطى للثقافة المصرية قدرها، ويعين لها الوزير الذى يليق بها فكريا ويرضى جموع المثقفين.