(1)
فى غمرة النضال الوطنى والصراع بين مشروعى «الوطن» و«الجماعة»؛ وهو الوصف الذى طرحناه هنا منذ وقت مبكر؛ أستأذن القارئ الكريم فى أن أذهب به قليلا إلى الحملة الإعلانية التى ينظمها بنك الطعام المصرى خلال شهر رمضان الكريم...الحملة تعتمد على عدد من الأفلام يجمع بينها تتبع حياة المواطن المصرى على مدار يوم كامل...الصورة المعروضة تعكس بؤس حياة هذا المواطن منذ أن يستيقظ فجرا إلى أن ينام بعد منتصف الليل وهو لم يضع لقمة فى فمه بل يضحى بنصيبه من أجل الباقين: الأب من أجل أسرته ـ فى فيلم من هذه الأفلام ـ، والابن من أجل إخوته ـ فى فيلم آخرـ، أثناء عرض الإعلان الفيلمى هناك تعليق يتُلى «مخالف» تماما للمعروض، يحكى عن الحياة اليومية لأب وطفل من الأثرياء.
(2)
فى الفيلم الخاص بالفتى؛ نجد الصورة تعرض كيف توقظه أمه فى الفجر من «فرشته البائسة...وما إن يرتدى ملابسه نجد إخوته الصغار قد انتهوا من تناول بقايا الطعام...فيخرج إلى الطريق سيرا على الأقدام خارجا من حى عشوائى فى ظلام الفجر كى يلحق بعمله فى إحدى الورش بعد رحلة عذاب...يعمل طول اليوم ويتحمل ضرب الأسطى، وأخيرا يعود ليلا حيث يتعرض للشجار مع بعض الفتيان...وأخيرا يعود منهكا لا يجد أكلا لينام على «لحم بطنه»...وفى أثناء ذلك يسير التعليق فى مسار آخر حيث يتحدث عن طفل يحافظ على جسمه، ويأكل بحسب المعايير العلمية يستيقظ مبكرا ليلحق «بباص» المدرسة، بينما الصورة تعرض لمعاناة الولد فى التوك توك أو ما شابه...وهكذا...شجار الولد فى الحارة يصبح فى التعليق تمرين الكاراتيه فى النادى.
(3)
ومن خلال المخالفة بين النص والصورة المعروضة...ينتهى الإعلان بشعار «فيه ناس الجوع عندها اختيار وفيه ملايين الجوع عندهم إجبار»...ظنى أن الإعلان قد نجح فى أن تصل الرسالة الإعلامية للمشاهدين...ولا شك أن الكثير من المصريين سيبادرون إلى دعم مشروع بنك الطعام المصرى...إلا أنه بالإضافة إلى ما سبق، ولا شك، سوف تثار مجموعة من التساؤلات الحيوية لدى كل مشاهد يتأمل الإعلان جيدا: صوتا وصورة؛ وذلك كما يلى:
• لماذا يوجد «الجوع» فى المجتمعات؟
• وهل الجوع اختيار أم إجبار؟
• وما هى الأسباب الموضوعية التى تؤدى بالملايين أن يجوعوا جبرا وقسرا؟
(4)
ويقينا، سوف تفتح هذه النوعية من الأسئلة الباب إلى المزيد من فهم الظواهر...وأن لها أسبابا علمية موضوعية جعلت مصر تصبح «مصرين»...مصر(بحسب التعليق المصاحب للإعلان): الباص والـIG، والدينر بوكس، وتمرين النادى، والبودى بيلدنج ودكتور الريجيم، مصر التى تعيش فى كومباوند/مجتمعات مغلقة...إلخ،...ومصر (بحسب الصورة المعروضة): البيوت الصفيح، والأحياء العشوائية، والطرق غير ممهدة التى لا تحتويها خرائط والتى ربما لا تظهر لجوجل، والأسرة كثيفة العدد، وعمالة الأطفال فى ظروف غير إنسانية،...إلخ...لقد أوضحت الصورة أن الجوع ما هو إلا نتاج بنيوى لخيارات اقتصادية وسياسية وثقافية أدت إلى ما وصلنا إليه...وأن الجوع لا يمكن فصله عن الفقر وعن السياسات المجتمعية التى انحاز لها النظام الاقتصادى منذ عقود، وتحديدا منذ مطلع ما أطلق عليه دولة يوليو المضادة التى انطلقت مع مطلع السبعينيات فى ظل قانون الانفتاح 1974، حيث تحالف اليمين السياسى مع الدينى فى تمرير سياسات اقتصادية أوصلتنا إلى ما يعرف بمجتمع الخمس.
لا مفر من التعاطى مع المسألة الاقتصادية الاجتماعية بسياسات تضمن العدالة للجميع.