لم يتفهم الإخوان المسلمون ما جرى فى ثورة يوليو 52 وظلوا على عدائهم التاريخى منها، ولم يروا فيها ميزة واحدة، واعتبروها فرصة لتصفية حساباتهم مع الجيش والضباط الأحرار حتى يظلوا دائما فى صورة الضحية التى يتآمر عليها الجميع، فيكون ذلك سبباً مهماً لتماسك الجماعة والتنظيم.
وقد طالب كثير من قادة الإخوان، حين كانوا فى السلطة، بعدم الاحتفال بثورة يوليو وهاجموها بقسوة تحت حجة رئيسية أنها حكم العسكر، وأن مصر عرفت حكما عسكريا طوال الـ60 عاما الأخيرة قضى على الأخضر واليابس.
والحقيقة أن «يوليو» لم تكن مجرد انقلاب عسكرى، إنما كانت تجسيداً حياً لنضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال والتحرر، الذى بدأ مع «العسكرى» أحمد عرابى، ومرّ «بالمدنيين» سعد زغلول ومصطفى النحاس، وانتهى بجمال عبدالناصر.
ولو كان قد نجح نضال الوفد الليبرالى فى تحرير مصر من المستعمر البريطانى لربما ما قامت ثورة يوليو، التى كان قيامها حتمياً لتعثر المشروع الوطنى فى جلب التحرر والاستقلال.
والحقيقة أن ثورة يوليو لم تكن حكما عسكريا مثلما جرى فى كثير من دول العالم، فعلى خلاف تجارب الجيوش الانقلابية فى أمريكا الجنوبية وأفريقيا وتركيا، عرفت مصر تجربة التنظيم السياسى السرى الذى اخترق الجيش (الضباط الأحرار) وقام بانقلابه الثورى، وهم فى فعلتهم هذه يتقاطعون أكثر مع نشطاء التنظيمات السياسية والأحزاب الثورية أكثر من تقاطعهم مع الانقلابات العسكرية التى تقوم بها المؤسسة العسكرية ككل فى مواجهة السلطة الحاكمة.
لقد كان تحرك تنظيم الضباط الأحرار فى ثورة يوليو ضد المؤسسة العسكرية نفسها ومنقلبا على قيادته وعلى نظام الحكم، على خلاف تحرك الجيوش فى النظم العسكرية التى يتحرك قادتها ومعهم المؤسسة ككل، مثلما جرى فى معظم بلدان أمريكا الجنوبية، ومنها على سبيل المثال انقلاب بينوشيه فى شيلى فى سبتمبر 1973 ضد الرئيس الاشتراكى المنتخب سيلفادور الليندى، الذى خلف عشرات الآلاف من الضحايا، أو انقلاب الجيش التركى عام 1980، الذى اعتقل حوالى 400 ألف مواطن بعد أن سقط فى تركيا فى السبعينيات حوالى 50 ألف قتيل فى مواجهات أهلية قاسية.
لقد اختلفت التجربة المصرية عن هذه التجارب، لأنها عرفت تنظيمات سياسية ثورية متعددة اخترقت الجيش ونجح أحدها، أى الضباط الأحرار، فى القيام بانقلاب ثورى على القيادة والحكم معا، وأصبح من الظلم وضع انقلاب يوليو- على عدم ديمقراطيته- مع انقلاب شيلى، لأن كلاً من عبدالناصر وبينوشيه ارتدى الملابس العسكرية.
المؤكد أن تجارب العسكريين فى الحكم لم تكن كلها فاشلة ولم تكن كلها عسكرية، فبعضها كانت علاقته بالعسكرية تتمثل فى ارتداء بزتها، وكانت موغلة فى المدنية والسياسة، كما جرى مع عبدالناصر والسادات، فكلاهما كانا أقرب فى تكوينهما إلى أبناء التنظيمات السياسية أكثر من كونهما ضابطى قوات مسلحة.
صحيح أن ثورة يوليو لم تكن ديمقراطية، فقد أسس عبدالناصر نظاما غير ديمقراطى قام على الحزب الواحد، وتساوى مع زعماء العالم الثالث «المدنيين»، الذين أسسوا لنظام الحزب الواحد أيضا متصورين أن مواجهة الاستعمار فى الخارج وتحقيق التنمية فى الداخل تتطلب نظما تعبوية من هذا النوع، وتساوت التجارب الاشتراكية والرأسمالية، و«المدنية» و«العسكرية» فى هذا المضمار، حتى بدت الهند استثناء واضحا من كل تجارب التحرر الوطنى بتأسيسها تجربة ديمقراطية لم تخل من مشكلات أيضا.
مدهش ومؤسف أن يختزل الإخوان ثورة يوليو فى وهم الحكم العسكرى، صحيح أنها لم تكن ديمقراطية، لكنها تصورت مخطئة أن هذه هى أدوات العصر (الكل فى واحد) لتحقيق هدف كبير هو الاستقلال والتحرر من الاستعمار.
أحد أسباب فشل الإخوان هو انفصالهم الكامل عن الذاكرة الوطنية المصرية وخلقهم ذاكرة أخرى موازية، فتعامل معهم الشعب كأنهم وافدون من خارج هذا البلد.