تضاءل العدد بالقياس إلى الأعوام السابقة، ولكن النتاج أسفر عن خمسة أو ستة أعمال ترشق فى الذاكرة ولا تغادرها بسهولة «بدون ذكر أسماء»، و«نيران صديقة»، و«موجة حارة»، و«آسيا»، و«فرعون»، ولم أضع بينها مسلسل «ذات» لأنه خارج نطاق السباق الرمضانى. إنه يشكل بالنسبة لى قفزة نوعية فى دائرة الدراما التليفزيونية بعد أن أصبح سجلا مرئيا للحياة التى عاشتها مصر بكل تفاصيلها منذ ثورة 52 حتى نصل إلى ثورة 25 يناير، متجاوزا، بل قافزا فوق سور الزمن الذى أحاطته رواية صنع الله إبراهيم.
عندما شرعت كاملة أبو ذكرى فى التجربة سألتنى كصديق قلت لها إن قناعتى هى أن أحد مخاطر استنزاف الإبداع هو تبديد الطاقة. التليفزيون بطبعه يحتاج إلى غزارة، ولهذا فإنه سرعان ما يستهلك تلك البطارية القابعة فى الوجدان والتى ترسل بين الحين والآخر ومضات، وكلما أفرط الفنان فى الإنتاج خفتت تلك الومضات. كانت كاملة قد حققت فيلمها الحميم «واحد صفر» وأمامها أفكار عديدة، لكن السوق السينمائية بمقايسها الصارمة لم تتح لها المناخ الصحى لتحقيق الحلم. حذرتها من تبديد الطاقة فى 30 حلقة أى نحو 15 فيلما، فهى لن تجد بعدها الكثير مما تضيفه عندما تعود مجددا إلى السينما. أتذكر أننى سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل (فى حديث ليس للنشر) عن اثنين من الموسيقيين والملحنين المشاهير لم يعودا يقدمان إبداعا متميزا، ولكن ما يصدر عنهما فقط ضجيج إعلامى لإثبات الحضور، قال لى الطويل إنهما من أكثر الجيل موهبة، ولكنهما أسرفا فى تقديم ألحان فوازير رمضان، ولهذا فإن كل نغمة أو جملة يقدمانها بعد ذلك تحمل بالنسبة لهما لمحة مما سبق أن ردداه. الفنان هو المتلقى الأول لإبداعه يشعر بجمال النغمة عندما تسكن وجدانه فيطلقها للناس، وأضاف أنهما من كثرة ما قدماه من أنغام لم يعد أى منهما يشعر بالدهشة التى تدفعه إلى اختيار النغمة التى تدخل القلب.
الإخراج التليفزيونى بطبعه استهلاكى، وتتحدد قيمة المخرج بالعديد من الاعتبارات أهمها سرعة الإنجاز. كنت أخشى على كاملة أن تتورط وتقدم المسلسل وفق قانون السرعة والذى يعنى السربعة. ما حدث على الشاشة هو أنها فرضت قانونها الخاص، ومنحتنا 18 حلقة وأسندت شركة الإنتاج حتى تلحق برمضان باقى الحلقات إلى المخرج خيرى بشارة.
وسيظل ما نراه منذ الحلقة 19 مثار تساؤل تقنى وفنى وأكاديمى بل وقانونى أيضا، الحالة الدرامية والديكورات ومفاتيح الأداء والجو العام والموسيقى والإيقاع كلها ضوابط رسختها المخرجة كاملة أبو ذكرى على مدى الحلقات السابقة، وخيرى عليه أن يكمل بنفس القانون، فهى لها نصيب فى ما سوف نراه على الشاشة حتى لو لم تقف فى البلاتوه، ولا يمكن مثلا أن نتابع «ذات» فى العشرين عاما الأخيرة، وهى المرحلة الزمنية التى أخرجها خيرى وقد تغيرت ملامحها النفسية، أو نكتشف من دون مبرر تغيير الديكور، ولن يستطيع أن يستبدل موسيقى التتر ولا حالة الموسيقى التصويرية لتامر كروان، ولا يجوز الاقتراب من شفرة الإضاءة المتفق عليها مع نانسى عبد الفتاح، فهى سلسلة متتابعة لا يجوز اختراقها، تعودت الدراما التليفزيونية عندما يقترب العرض الرمضانى ولا يتم استكمال الحلقات أن تتم الاستعانة بأكثر من وحدة تصوير وبعضها يشارك فيها مخرجون كبار لا يعلنون أسماءهم لأنهم استكملوا ولم يضيفوا.
دعونا الآن نعود إلى الشاشة، هل ما شاهدناه حتى الآن مجرد خيال أم أن كاملة أمسكت بعمق الواقع، إنها عين تلتقط كل التفاصيل. هل تذكرون مشهد باروكة ميرفت أمين لمحة خاطفة دفعتنا إلى زمن السبعينيات عندما كانت كل من نجلاء فتحى وميرفت أمين هما العنوان الرسمى للجمال، وصارت لكل منهما باروكة تحمل اسمها، هل تتذكرون الحلقة الثانية عشر والحمام والمطبخ والسيراميك؟ ألم نتذكر جميعا فى تلك اللحظة موقفا مشابها مر بنا؟ عبقرية أداء نيللى كريم بأقل القليل من اللمحات، المواجهة الدائمة بينها وزوجها تنضح بمذاق الحياة اليومية، باسم سمرة الشهير بـ«عبد المجيد أوف كورس» يقدم أحلى أدواره.
أصل الحياة رأيته على شاشة التليفزيون بموسيقى وإضاءة وكادر وحركة ممثلين وسيناريو يستحق الدراسة لمريم نعوم. ما نعيشه فى الحياة صار بالقياس هو الصورة، نعم هى تجربة خاصة جدا لا أنصح حتى كاملة بتكرارها، «ذات» واحدة تكفى!!