قبل أن أبدأ.. هذا الصباح أكملت ثورتنا الأم، ثورة 23 يوليو، الربيع الواحد والستين من عمرها المديد، بينما الشعب الذى احتضنها وطوى ضلوعه على مبادئها وأهدافها الراقية النبيلة ووضع قائدها الشامخ العظيم جمال عبد الناصر فى حشايا القلب وأبقاه خالدا فى ضمير الأجيال. هذا الشعب يخوض الآن ببسالة وبطولة أسطورية معركة ثورية متجددة، لكى يهزم أعداء الحياة ويستعيد قدرته المعجزة على الإسهام فى مسيرة التحضر الإنسانى ويبنى وطنا جديدا حرا متقدما، يزهو مجتمعه بالعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.. كل عام وأنتم ومصر وأمتنا العربية بخير.
وبعد.. فقد ختمت أمس الحديث عن بعض سموم دستورهم الساقط بـ«نكتة» واليوم أبدأ بـ«كذبة».. فلا بد أنك سمعت ألف مرة على الأقل جماعة الشر السرية المدحورة وحلفاءها الظلاميين وأتباعها جميعا، وهم ينفون وينكرون أنهم يسعون لإقامة دولة دينية فاشية (وفاشلة طبعا، كما رأينا) يتلفع الحكام فيها برداء الدين الحنيف طمعا فى إسباغ قداسته على سياسات قد تكون كارثية، ويحصنون بعصمته وجلاله ممارسات ومواقف ربما بعضها أو كلها انتهازية وسافلة وغير أخلاقية و.. إجرامية كذلك.
ولست أشك أنك حفظت الحجة التافهة التى يرددها أتباعهم كالببغاوات (نفسى أعرف مَن المؤذى الذى حفظهم إياها) ومختصرها إن الإسلام لا يعرف أصلا تلك الدولة الدينية التى شاعت فى أوروبا العصور الوسطى عندما كانت الكنيسة هى التى تحكم وتستبد وتتحكم فى حياة الناس باسم الدين.
وإمعانا فى التعالم والحزلقة والاستعراض فإن القائلين بهذه الحجة الفارغة كانوا يزينونها فورا ودائما بتعبير أعجمى يتوهمونه من مقتضيات الشياكة والأناقة اللغوية ويعتبرونه كفيلا وحده بإنهاء الموضوع وحسمه تماما، إذ تجد الأخ الجاهل من دول يعتدل فجأة فى جلسته وينتفخ وهو يقول بفخر: ليس فى الإسلام «حكما ثيوقراطيا» إلهيا كما كان فى أوروبا.. وهذا بالقطع حقيقة، فالإسلام فعلا لا يقول ولا يقر الحكم باسم الدين، لكن المسيحية أيضا لم تأمر بالحكم الدينى، وإنما الذى حدث أن مسيحيين (وليس الكتاب المقدس) هم الذين أسسوا واخترعوا دولة الكنيسة، تماما كما أن نفرا من المسلمين يخترعون الآن اختراعا مشابها ويحاولون فرضه على خلق الله بالمراوغة والمخاتلة والكذب، واللعب العبيط بالألفاظ والصياغات!!
هذا اللعب الردىء يستطيع أى قارئ لبنود دستورهم الشنيع أن يلاحظه ويلتقط أدلته ويتلمس مظاهره بسهولة شديدة، فهناك مثلا تلك الفقرة التى حشرت حشرا فى نهاية المادة رقم (4) والتى تجعل مما يسمى «هيئة كبار العلماء» فى الأزهر الشريف سلطة مرجعية تقيد سلطة التشريع المنتخبة (البرلمان) فى كل شأن يتعلق بتنفيذ وإعمال ما جاء فى البند الدستورى الثانى من أن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».
غير أن هذه الفقرة ليست الدليل الوحيد، فهناك المادة (219) الرهيبة التى تتزايد وتتجاوز فى التهور وانعدام الحس بالمسؤولية تجاه وحدة النسيج الوطنى لدرجة إرساء دعائم بنيان طائفى بغيض لم تعرفه هذه البلاد على مدى تاريخها كله (تأمل من فضلك فى مجزرة قرية «أبو مسلم» التى وقعت قبل أسابيع عندما قام مواطنون مسلمون بقتل مسلمين آخرين بحجة انتمائهم إلى المذهب الشيعى)!!
كما أن المادة رقم (6) تسمح، أو بالأحرى «تدستر» قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، فهى أسقطت الحظر الذى ظل قائما فى كل التراث الدستورى المصرى على الأحزاب التى تتمسح فى الدين وتستخدمه فى معارك السياسة، وتوسلت صياغة هذه المادة بلؤم عبيط، فاكتفت بـ«عدم جواز قيام أحزاب على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين»!!
عموما، هذا الدستور المشموم يؤسس ليس لدولة دينية متأخرة وغارقة فى الظلام فحسب، وإنما يختلق ويبنى كذلك دعائم «دولة طوائف» مهترئة ومشتتة يحتكم مواطنوها لشرائع ومذاهب شتى ولا يكاد ينظمهم نسق قانونى وطنى موحد، وهو أمر يتجلى ويتجسد على نحو كارثى وغير مسبوق فى البند رقم (3) حيث جرى تقسيم المصريين وتوزيعهم على ملل ونحل مختلفة، ثم منح كل واحد منهم رخصة بمقتضاها يلوذ ويتمترس داخل قوقعة دينه وأحكام شرعته.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. و.. أكمل باقى عينات جردة بلاوى وسموم دستور الغبرة بعد غد، إذا أحيانا المولى تعالى.