قضيتُ الأيام السابقة أقرأ كتاب «ابن حزم» للإمام محمد أبى زهرة. وهذه بعض الخواطر السريعة عن منهج الشيخ الجليل.
1- من أهم مؤلفات الإمام كتبه الثمانية عن الأئمة الأربعة لأهل السنة (أبى حنيفة، مالك، الشافعى، ابن حنبل) بالإضافة لإمامى أهل الشيعة (الإمام زيد بن على، والإمام جعفر الصادق) بالإضافة لابن تيمية الذى بلغ منزلة الاجتهاد ولم يبلغ منزلة المذهب المستقل (على حسب تعبير الشيخ أبى زهرة)، ومُجدّد المذهب الظاهرى فى بلاد الأندلس بعد موت المذهب فى الشرق، الفقيه والأديب الأندلسى ابن حزم.
2- يتميز منهج الإمام محمد أبى زهرة فى ترجمته للأئمة بالأدب الشديد. ليس فقط الأدب الظاهر بحسن الثناء على دينهم وتقواهم والتأدب معهم، بل هناك أدب خفى يظهر فى البدء بالكتابة عن الإمام زيد بن علىّ قبل الإمام جعفر الصادق كونه عمه رغم انتشار المذهب الجعفرى عن المذهب الزيدى، فتأمل!!
3- لكن حينما يجد الجد فإن الإمام أبا زهرة يناقش المذهب بحرية فكرية رائعة ولا يتردد فى كتابة رأيه المخالف بأدب شديد. والأمثلة أكثر وأشد تخصصاً مما يتسع لها المقال. على سبيل المثال، رغم إعجابه بعقلية ابن حزم الفذة فإنه نسف الأساس الذى يقوم عليه المذهب الظاهرى الذى يرفض الرأى فى الفقه، شاملاً القياس والاستحسان. وكذلك فى كتابه عن «ابن حنبل» فإنه ملك شجاعة الإعلان أن أدلة المعتزلة فى خلق القرآن أقوى من أدلة ابن حنبل. ولم يمنعه التسامح الفكرى مع الشيعة من نسف أساس المذهب الجعفرى الذى يقوم على الإمامة وعصمة الأئمة وعلمهم اللدنى غير المُكْتسب. بل أضاف أن مذهبهم لم يُكتب إلا بعد الإمام جعفر بمائتى سنة. وفى كتابه عن ابن تيمية أشار إلى التناقض بين منهجه فى إثبات التجسيم مع التنزيه فى آن واحد. والخلاصة أنه لم يكن مجرد حافظ ومردد لأقوال الأئمة، بل ناقداً لها بعقلية فقيه فذ، مجتهداً باحثاً عن الصواب.
4- يزن الإمام أبوزهرة المسائل الشائكة بدقة موازين الذهب، فيُخطّئ وينقد ولكن لا يُكفّر بلا حساب. انظر إليه وهو يقرر أن خلافنا مع الشيعة الجعفرية خلاف فى الرأى والتاريخ وليس خلافاً فى الدين والاعتقاد، رغم أنه نسف أساس المذهب الجعفرى. وانظر إليه وهو يقرر فساد المذهب الإسماعيلى الذى يعتقد فى باطن مستور يعرفه الإمام، ولكنه يؤكد فى الوقت نفسه أن هذا الاعتقاد ليس كفراً صريحاً يخرج المرء به من الدين. وانظر إليه وهو ينفى عن ابن حزم تهمة الناصبية والعداوة للإمام على وذريته رغم أن ابن حزم لم يُحسن الأدب فى حديثه عن الإمام علىّ.
لا شك أنه كان صاحب ميزان حساس جداً خصوصاً فيما يتعلق بالتكفير. وليس مثل مشايخ هذه الأيام أصحاب الفكر الأحادى والمذهب الواحد.
5- لا شك أنه فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر. ولو كان الإمام محمد أبوزهرة حياً بيننا، بفقهه وأدبه وتجرده، لتغير الشىء الكثير. أن يكون شيخك هو «محمد أبوزهرة»، وليس مشايخ هذه الأيام، فهو الشىء الذى «يفرق كتير»!!!