أصبح فضل شاكر مطلوبًا بعد أن حمل السلاح وصار هو الأقرب إلى القيادى السلفى المتشدد أحمد الأسير، يعمل تحت لوائه، لا يتردد عن فتح النيران لو أمره بذلك، الاستقطاب السياسى فى لبنان مثل الخبز اليومى، وأغلب المواطنين متورطون سياسيًّا، ولكن زهق الأرواح يبدو أنها صار عند البعض أيضًا خبزًا يوميًّا.
هل تخيّلت قبل بضع سنوات أن تشاهد صورة المطرب فضل شاكر وهو يسيل دماء خصومه بعد أن كان يسيل دموع مريديه ومعجبيه، فضل اعتلى قمة الرومانسية وتوّجوه ملكًا للقلوب المجروحة المتعطشة للمسة حب، كان صوته بمثابة النبرة الحانية التى تطبطب علينا وتدغدغ مشاعرنا بأغنيات، مثل «يا حياة الروح» و«الله أعلم» و«بياع القلوب» و«نسيت أنساك» و«متى حبيبى متى» و«لابس وش الطيب»، والذى كانت صوره تزيّن دائمًا صفحات الفن، فجأة ينتقل إلى الصفحات السياسية، وبدلًا من أن نراه يعتلى خشبة المسرح ممسكًا بالميكروفون شاهدناه مؤخرًا فى ساحة الوغى رافعًا الكلاشنكوف مهددًا ومتوعدًا.
مجموعة من المتناقضات هذا الفنان الكبير الذى احتل مكانة خاصة على الخريطة الغنائية، كان صاحب رأى فى بداية الثورة السورية وانحاز إلى الشعب، رغم صمت وترقّب أغلب الفنانين والمثقفين، والذين اختار أغلبهم ولا يزال -مع الأسف- أن يمسك العصا من المنتصف، بل إن بعضهم الآن بسبب غموض الموقف المصرى بعد رحيل الإخوان عن الحكم، صار ينتظر ما يسفر عنه توجّه النظام المصرى ليعلن بعدها هل هو مع الثورة أم بشار.
فضل منذ ثورة مارس وهو لديه موقف ثابت لا يتزحزح، أكد وقتها أن ما يجرى فى سوريا مجازر تتم تحت رعاية بشار، خاف القطاع الأكبر من الفنانين والمثقفين السوريين واللبنانيين من بطش مخالب يد الأسد التى تمتد خارج الحدود، بينما فضل واجه بشجاعة الطاغية، إلا أن قرار اعتزاله بل وتحريمه الفن جاء مواكبًا لهذا الموقف الثورى، كان من الممكن أن يحيل صوته الشجى إلى أحد أسلحة المقاومة، مثلما فعل المطرب السورى الشاب إبراهيم قاشوش، موجهًا أغنياته ضد بشار، تمنّيت أن يأخذ بثأر قاشوش الذى انتزع شبيحة النظام الأسدى حنجرته وألقوا بجثته فى نهر «العاصى»، لماذا لم يكمل فضل الرسالة؟
دائمًا ما أرى فضل مشاركًا فى مظاهرات سلفية، كنت أتمنى أن لا تصبح الطائفة هى العنوان، كل تصريحاته تؤكد أن زاوية الرؤية لا تتعدى تلك الدائرة الضيقة، أصبح يفسر كل المواقف التى يتعرّض لها بأنها انعكاس لظلم يعانى منه بسبب كونه سنيًّا سلفيًّا، وفتح النيران بعدها مباشرة ضد عدد كبير من زملائه، معلنًا أن الفن حرام، فهل كان فضل يمارس الحرام طوال أكثر من ربع قرن؟! وهل كل من يبدع الفن بمختلف صوره وأنماطه غارقًا فى الرذيلة؟!
«لا تبصق فى بئر شربت منها»، حكمة قديمة ولكن مع الأسف كثيرًا ما شرب البعض من آبار كانوا هم أول من لوّثوها، بديهى أن مَن يعيش فى وطن لا يسبه ومَن يعيش أيضًا فى وسط لا يشهّر به، ولكننى كثيرًا ما دهشت وأنا أقرأ تصريحات فضل شاكر وهو يحيل صوته الدافئ إلى سوط عذاب يلهب به كل مَن مارس الغناء!!
بالتأكيد كل تلك الموبقات التى تلصق بالفن عندما يعلنها فنان بحجم فضل تصبح أداة لطعن كل مَن يمارس الإبداع، خصوصًا مع تنامى سطوة تيار رجعى يتدثّر كذبًا بالدين، لديه قناعة بأن الفن رجس من عمل الشيطان، وهكذا سوف يقولون «شهد شاهد من أهلها».
نعم، الحياة الفنية وطوال التاريخ بين الحين والآخر نلمح فيها تلك الأصوات وهى تعلن عن تحريمها الفن، إلا أن كل ذلك يهون أمام قسوة الكلمات التى أطلقها فضل شاكر، ما الذى من الممكن أن يقوله المتطرفون دينيًّا لو أرادوا تحريم الفن أكثر مما أعلنه فضل.
هل من الممكن أن تصبح هذه هى الصورة النهائية التى تتبقى فى الذاكرة لهذا الفنان، مطلقًا ذقنه ممسكًا بسلاحه الآلى واقفًا بجوار السلفى الجهادى أحمد الأسير منذرًا بحرب يخوضها ضد أى طائفة تتعارض مع طائفته؟ عندما يمنح الله الفنان موهبة تصبح هى الأمانة التى عليه أن يوصلها إلى البشر أجمعين، فكيف يفرّط فضل فى الأمانة؟!