لا يوجد ما يستدعى أن يشعر أحد بالحرج أو بالجرح أو الألم عند مناقشة، بل مهاجمة، أى شخصية لعبت دورا فى التاريخ (الدينى أو السياسى) فهذا أمر وارد وطبيعى، بل ربما مطلوب كذلك، فالخلافات الفكرية والروايات المتناقضة والآراء المتصارعة هى التى تنتج فى النهاية الوعى والحقيقة، فضلا عن أن السكوت عن إعلان النقد والصمت عن إبداء الحجة وتجاهل مناقشة الاتهامات والجرى من أمام الشبهات، كل هذا يؤدى حتما إلى غياب الوعى وتغييب الحقيقة. ثم ما الذى يضر الإسلام والسنة النبوية إذا ما ناقشنا أو حتى انتقدنا فُلانا أو عِلَّانًا من صحبة الصحابة أو التابعين أو الكبار الأوائل؟ فليس فى علمنا أن أحدا معصوم من الخطأ، وليس هناك مقدس من بين البشر ممنوع الاقتراب منه أو اللمس أو المس. والسنة النبوية التى يخشى عليها الكثيرون من المزعجين المنزعجين من أى حوار ليست هذا الرجل الصحابى أو غيره، وهى ليست ضعيفة أو هشة يؤلمها أو يوجعها (أو يجرحها) ويضعفها الاختلاف على وحول رواية أو إمام، ثم كله موجود (بكثرة وبقوة) فى المراجع وأمهات الكتب.
وكتب التاريخ الإسلامى ملأى بالخلافات والمناقشات والمراجعات، بل بالطعن فى هذا وذاك دون أن يكون هذا إلا تقوية ودعما لصلابة الفكر وجوهر الفقه. ويبقى السؤال دائما: هل نحن مستعدون لمناقشة ما نحرص على كتمانه أو دفنه فى زوايا التاريخ أو أزقة الكتب والمكتبات؟! من جملة هذا مثلا الإسرائيليات التى غزت واستوطنت فى كتبنا وسيرتنا الفقهية والتاريخية، والتى كانت جسرا لها وذراعا لديها بعض الوقت أئمة ورواة. لكن يبقى أن الاسم اللامع والشهاب الجامع على ضفة الإسرائيليات كعب الأحبار!
هو كعب بن ماتع الحميرى وشهرته كعب الأحبار، وكان من كبار أحبار اليهود، ولكنه لم يسلم فى أول عهد الإسلام ولا فى عصر النبى -صلى الله عليه وسلم- أو فى عهد أبى بكر الصديق -رضى الله عنه- بل تأخر إسلامه حتى خلافة عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- وهو ما يلقى بالأسئلة من اللحظة الأولى عن سر هذا التأخر فى الإسلام، ولماذا جرى التحول؟ هل يا ترى بعدما رأى انتشار الدين وقوته؟! والسؤال عن إسلام مسلم مسألة محرَّمة، فهو تفتيش فى القلوب، لكن كعبا لم يُسلم، ثم اشتغل بالتجارة أو النجارة كى نسكت عنه، بل اشتغل واشتهر برواياته فى التفسير والتاريخ والحديث!! ومن هنا تحول إلى رجل صاحب موقف، وكما نقول شخصية عامة تستوجب التساؤل، ولا مانع من مناقشة أفكاره التى تقف وراءها ديانته السابقة، والتى لم يكن فيها مجرد عابد متعبد، بل حبر وكاهن وابن كاهن. وهو ما جرَّ عليه كل هذه الاتهامات كل هذه السنين. ثم إن روايات عديدة تعتبر قتل عمر بن الخطاب على يد أبى لؤلؤة المجوسى مؤامرة، كان كعب الأحبار مشتركا بها وضليعا فيها، لكن اللمعان الكبير والنتاج الضخم لكعب الأحبار كان فى عهد معاوية. ويتوقف كثيرون عند ما قاله بشير بن سعيد «اتقوا الله وتحفّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتُنا نجالس أبا هريرة فيحدِّث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ويجعل حديث كعب عن رسول الله»!.. ويبدو، كما هو واضح، هذا الوجود المهم لكعب الأحبار الذى لم يعاصر النبى -صلى الله عليه وسلم- ولم يصحبه مسلما أو يهوديا، بل كان فى اليمن، ومع ذلك يدلى بغزير رأيه وتفسير عقله، وروايات تاريخية فينقلها عنه بعض الصحابة أو ما تم دسه عليهم، كأنهم ينقلون عن النبى. أو تخرج روايات كعب مخلوطة بأساطير التوراة وما دخل فيها من زيف المزيفين أحبارًا وكُهَّانًا، وتسللت مع الإسرائيليات فى أحاديث منسوبة أو تفسيرات لآيات فى كتب التفسير، نقلها عنهما الناقلون، وتورط فيها الشارحون. وأظن أنه كما يتوجب علينا أن نواجه إسرائيل، فعلينا كذلك واجب أن نواجه الإسرائيليات.